إنطلاقا مما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن “الدين الإسلامي يعيش أزمة في جميع أنحاء العالم اليوم” أسأل سؤالا من الذي يمر حقيقة بأزمة ؟ الدين الإسلامي أم العلمانية التي يؤمن بها ماكرون؟
وقبل الوقوف على جواب السؤال لنتعرف عن معنى العلمانية وعلاقتها بالعالم الإسلامي و أسباب إفلاسها فيه وفي العالم ككل.
فالعلمانية هي ترجمة لكلمة “سيكولاريزم Secularism” الإنجليزية، وهي مشتقة من كلمة لاتينية “سيكولوم Saeculum”، وتعني العالم أو الدنيا و وضعت للتحرر من الكنيسة، وقد استخدم مصطلح “سيكولارSecular ” لأول مرة مع توقيع صلح وستفاليا(عام 1648م)-الذي أنهى الحروب الدينية المندلعة في أوربا- وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة – أي الدولة العلمانية- التي نادت بفصل الدين عن الدولة وإعلاء مكانة العقل بعد فرض الكنيسة القيود عليه والحد من دوره بإخضاعه للأحكام الدينية الجاهزة التي هي رمز التخلف والرجعية ومن أساطير الأولين حسب اعتقاد اللادينيين.
وبعد تحرر أوروبا من الكنيسة تعدت إلى محاربة الإسلام في عالمنا الإسلامي ولكي لا تصطدم فكرة فصل الدين عن الدولة مع الواقع الاسلامي ربط الغرب العلمانية بشعارات الحداثة و التنوير والحماية و المنظومة الكونية لحقوق الإنسان لتصبح أقرب الى نفوس المسلمين ولتبرير حروبه الاستعمارية في القرن الماضي والتي نتج عنها تفكك الامة الاسلامية و تنصيب أنظمة – بعد استقلال هش- حملت هذا الفكر العلماني و تربعت على عرش الأمة و سخرت لأجندتها نخبة أخذت أماكن الصدارة في العديد من المجالات ليصبح من مازال متشبثا بالاسلام مظطهدا في وطنه و مراقبا أو منفيا منه أو قابعا في أحد سجونه ومعذبا.
كما فرضت هذه الانظمة مناهج تعليم لا تثبت انتماء المسلم لهويته الاسلامية ونادت بحداثة – فرضها الغرب بعد استعماره العسكري وعن طريق استعماره السياسي والاقتصادي والثقافي – تقوم على الفكر النفعي والاستهلاك المادي الخاضع لحركيات السوق الخالية من كل قيم و أخلاق وعلى غياب العدل في تقسيم الثروات ليصبح القوي يأكل الضعيف وصولا إلى تكبيل الأمة الاسلامية باتفاقيات دولية زعموا أنها حقوق كونية و تجهض كل القيم بدء بتحطيم الأسرة التي كان تعريفها في الغرب بيت يجمع -بعقد شرعي- رجلا و امرأة وأطفالا ثم أصبح تعريفها بيت يجمع رجلا وامرأة وأطفالا بدون عقد وصولا إلى بيت يجمع شخصين وطبعا قد يكونان رجلان أو امرأتان وهو ما معناه السحاق واللواط الذي أصبح مقننا في بعض الدول الغربية من بينها فرنسا وهو ما ينادي به كذلك اللادينيون في عالمنا الإسلامي بحجة حرية الضمير لنقف في النهاية على علمانية أخرجت الانسان من انسانيته و ألغت فكره واصبح كائنا غارقا في الحياة العبثية لا اخلاق له ولا قيم تردعه فكثر الإلحاد والجريمة و العنصرية والجنس لغياب العقل الذي نادى العلمانيون بعلويته على الدين لإرساء عالم أفضل.
لكن العلمانية بقيادة الصهيونية العالمية لم تحقق الى يومنا عالما أفضل لا بمحاربتها للدين ولا في مجال العلوم.. فقد احتكرت الدول الكبرى العلوم لنفسها وأخفت الحقائق العلمية التي تخدم إيجابيا الإنسان.. ودمرت هذه الدول البشرية باختراعاتها العلمية كالاسلحة والأدوية والتلاقيح الفاسدة والاطعمة الفاسدة كما حاربت علماء- مسلمين وغربيين – في كل أنحاء العالم واغتالت بعضهم وهم الذين لما وجدوا الحقيقية العلمية تخدم الحقيقة الدينية آمنوا و سعوا لتنوير العالم بها و الذين قال الله عنهم (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ- 28- فاطر).
و أمام هذه الفوضى التي فرضها العلمانيون على العالم والتي يطلقون عليها الفوضى الخلاقة وهم ياملون في الحقيقة خلق عالم تقوده دولةالشيطان بقيادة الصهيونية العالمية والتي تتعارض مع فطرة الإنسان الذي مهما خنع وخضع فإنه سيثور في النهاية على العالم المادي ويتصالح مع فطرته السوية وهو ما وجد العلمانيون أنفسهم أمامه بقيام الثورات العربية بدء بالثورة التونسية و عودة الخطاب الديني بقوة وقفز الحركات الاسلامية للحكم و خروج الشعوب في العالم الغربي للتنديد بهذه الانظمة العلمانية وليهتف الشعب الامريكي بلغة عربية فصحى“الشعب يريد إسقاط وول ستريت“ وهو ما جعل العلمانيين يستشعرون الخطر والتهديد لعلمانيتهم ليخرج علينا الرئيس الفرنسي ماكرون منذ أيام ويقول إن العالم الإسلامي يمر بأزمة وذلك لشعوره بالجبن من قول إن العالم الإسلامي يعود بقوة ويتزايد أتباعه يوما عن يوم ويجمع حوله شعوب العالم وإن العلمانية هي التي تمر بأزمة لافلاسها على جميع الاصعدة.
وما صرح به ماكرون ينذر بعودة محاكم التفتيش ضد المسلمين في أوروبا حيث قال “سيكون هناك مشروع قانون، بعد 115 عاما على إقرار قانون 1905 (قانون فصل الكنيسة عن الدولة)، وسيهدف إلى تعزيز العلمانية وترسيخ مبادئ الجمهورية”.مقدما في ذلك خطة لمحاربة ما اطلق عليه “الإسلام المتطرف”، والتي ستشمل صياغة مشروع قانون فرنسي سيعزز الرقابة على الجمعيات، ويحظر التعليم في المنزل، إلا لأسباب صحية، كما سيعمل على تدريب الأئمة، الذين يعملون في فرنسا.
فماكرون بخطابه الحاقد على الإسلام وبتلويحه لإقامة محاكم التفتيش أعطى الضربة القاضية للعلمانية حيث لم يعد في مقدوره إقناعنا بحياد الدولة تجاه الأديان ولا بالمساواة بين المواطنين أمام القانون ولا باحترام الحريات الفردية وهي المبادئ التي تشدقت بها العلمانية.
وفي الحقيقة إن التلويح بمحاكم التفتيش ضد المسلمين نصح به كل من زعيم الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي حيث قال خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن( فيفري -2019) ، إنه داوم في لقاءاته مع المسؤولين الأوروبيين أو من أي دولة أخرى على حثهم على مراقبة المساجد والانتباه لما ينشر فيها وتضييق الخناق على المتدينين زاعما أن ثلاثين مليون مصري نزلوا إلى الشارع رفضا للحكم الديني المبني على التطرف والتشدد، الذي سيؤدي إلى حرب أهلية في مصر.
أما في دولة الإمارات فقد عبر محمد بن زايد آل نهيان عن مخاوفه من انزلاق المزيد من الشباب المسلم إلى ما أسماه التطرف في مساجد ألمانيا و قال زيغمار غابريل نائب المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في العام ( 2015) إن ولي عهد أبوظبي طلب منا عدم تغافل الأمر، لانه سيصيبنا في النهاية جميعاً”.
ومن جانبه ربط ما يسمى وزير رالتسامح في الامارات الشيخ نهيان مبارك آل نهيان المساجد بالإرهاب وقال، إن “إهمال الرقابة على المساجد في أوروبا أدى إلى وقوع هجمات إرهابية هناك” واعتبرأن اعتناق مسلمين في أوروبا لما يسمى الفكر المتطرف في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا، جاء بسبب غياب الرقابة الكافية على المساجد والمراكز الإسلامية.
لكن مهما فعل هؤلاء فإن علمانيتهم ذاهبة إلى الأفول والانهيار وهو ما استشرفه حتى كتاب غربيون مثل الكاتب الفرنسي إريك زمور الذي قال في كتابه ”الانتحار الفرنسي ” : ”إن فرنسا تتبنى سياسة ستؤدي إلى انهيارها وكتب في هذا الصدد: “لم يعد الفرنسيون يتعرفون على فرنسا، الحرية أصبحت هي تفسخ القيم، والمساواة أضحت تعادل المساواة التمييزية المبالغ فيها، والإخاء تحول الى حرب الكل ضد الكل…وصارت فرنسا بمثابة ذلك البناء التاريخي الجميل لكنها من الداخل تنهار“. وهو في الحقيقة ما شعر به الرئيس ماكرون فخرج يتوعد بمحاربة الاسلام الذي ينتشر بقوة في فرنسا وفي العالم ككل.
هكذا شهد شاهد من أهل إيمانويل ماكرون وستنهار علمانيته التي تقودها الصهيونية العالمية وستتواصل ثورات الشعوب لكنس كل الانظمة المحاربة للدين والعلم معا و لفرض عالم أفضل بشد الانسان الى خالقه ويحقق العدل والكرامة بأحكام الإسلام .
و كما قال عالم الذرة التونسي البشير التركي- رحمه الله- و الذي اضطهده الرئيس التونسي المخلوع الحبيب بورقيبة ومن بعده المخلوع زين العابدين بن علي و الذي تعرض للإغتيال في أكثر من مناسبة خدمة للغرب فقد قال في كتابه ”حضارة الألفية الثالثة“ ”ويستحيل أن تقام حضارة الألفية الثالثة على أسس غالطة و عرجاء فلذلك نرى الغرب و الشرق الأقصى بقيا يتعثران في طريق مسدودة ويتخبطان في الوحل المتزايد فيهما و أما المسلمون فبفضل العلم و الإيمان بهدي القرآن سيشيدون حضارة حيث التفكير والمعتقد متناسقان ومنسجمان للوصول إلى التوازن المنشود في كل الميادين المادية و المعنوية ويحلون كل مشاكل الانسان الفردية والجماعية لضمان السلم وسلامة الوجود ” مضيفا أنه ” في زمن نزول القرآن انتصرت بلاغة القرآن على فصاحة العرب الوثنية وفي زمن الفتح الأول انتصر علم التوحيد وعلم الكلام على فلسفة اليونان المشركة وفي زمن الحروب الصليبية انتصرت قوى الإسلام المادية و المعنوية بفضل اكتشاف المدفع والبارود وكذلك القلم المتنقل وتطور الورق واليوم ينتصر الاسلام بالعلم و الإيمان بهدي القرآن على الفكر الملحد و الأعرج ”.
و يرى الدكتور البشير التركي أنه إن كان نصف القرن الأخير هو زمن تخبط الاستعمار البشري بتواطؤ من بعض أبناء الأمة المتخاذلين فلا شك أن المستقبل لا يكون إلا للإسلام.
فهل تكون ثورات الأمة هي بداية لنهضة الأمة العلمية والايمانية بعد كنس كل تلك الأنظمة التي باعت كل شيء في الامة بعد بيع نفسها للشيطان زعيم العلمانيين؟
ليلى العود