استرجاع الأموال المنهوبة المهربة إلى خارج تونس منذ عهد المخلوع بن علي اسال بعض الحبر هذه الأيام، مع انتهاء المهلة القانونية المحددة بقانون سويسري صدر اثر الثورة لمساعدة تونس على استرجاع أموالها بالطرق الميسرة.
ما لاحظته عند الجميع، مسؤولين ومواطنين ومعلقين إعلاميين، غياب المعلومة والتخبط في التفاصيل وغلبة الهمهمة السياسية والتحاليل الاعتباطية.
أوضح في هذا المقال ما قد يفيد لاجتناب تحويل دفة النقاش نحو ما لا يجدي، ولتحميل كل مسؤول ما يقع عليه فقط من المسؤولية بلا إفراط ولا تفريط.
في 2014 وامام المجلس الوطني التأسيسي، صرح القاضي نجيب هنان، رئيس لجنة المصادرة آنذاك التي أحدثت بالمرسوم عدد 13 لسنة 2011 أن قيمة الأموال والممتلكات المصادرة تقدر بحجم ميزانية الدولة التونسية.
وهذا يشمل طبعا ما صودر بتونس ويشمله التجميد بأشكال مختلفة قانونية وقضائية وما هو وموجود خارج تراب الوطن في مختلف البلدان التي تعامل معها النظام السابق كسويسرا والامارات العربية المتحدة وكندا وفرنسا.
السيد رياض بوجاه الذي خلفه على رأس لجنة المصادرة في جوان 2014 لم يتجاوز هذا التصريح وواصل العمل الذي بدأه سلفه، ولكن تحت ضغط حقيقي وهرسلة غير عادية.
أذكر هنا تصريحات الوكيل السابق لرئيس المحكمة الإداريّة أحمد صواب، اثر استقالته من لجنة المصادرة بأنّها تتعرّض إلى “هجمة ممنهجة بتواطئ من الدولة”.
وأضاف أنّ “باب جهنمّ فُتِحَ” على اللجنة. وقد تضاعفت الضغوط الإعلامية والسياسية ضدّ اللجنة بشكل لا يطاق خاصّة بعد قرارها مصادرة جزء من ممتلكات مروان المبروك.
وقد قامت وزارة أملاك الدولة حينها بإبعاد مقرّر اللجنة يونس الزمزمي أسبوعًا واحدًا إثر إصدار الأخيرة قرار مصادرة أملاك المبروك في شركتيْ “مونوبري” وبنك تونس العربي الدولي. الأمر الذي رأى فيه القاضي أحمد صواب قرارًا واضحًا بتعطيل اللجنة عبر إقصاء العضو الأكثر إلماما بأشغالها، بالنظر إلى وظيفته فيها انذاك.
احمد صواب وصف الوضع ب “زواج متفجّر بين عالميْ السياسة والمال”. وأوضح أنّ للديمقراطية، ثلاث أعمدة تقوم عليها هي الأمن والإعلام والقضاء، “إلاّ أنّ حالة القضاء هي الأردأ”. واعتبر أنّ حالة القضاء صارت أسوأ بكثير من زمن بن علي. ولم يستثن من ذلك القضاء الإداري.
قد نخالف القاضي أحمد الصواف تشخيصه لحال الإعلام، نظرا لما يعيشه هذا القطاع بتونس من تهرئة حقيقية وزيغان مرعب عن ابجدياته الأساسية، وارتهانه للسياسي والمخابراتي. ولكننا نشاطره الرأي في حال القضاء التونسي الذي عاش أهم انتكاساته بعد الثورة بتدجين لجنة المصادرة التي يقوم عليها قضاة من المفترض أن يتمتعوا بالاستقلالية التامة.
انتهت الهرسلة بتدجين لجنة المصادرة بعد تحميلها في تقارير مشبوهة وذات صبغة سياسية خسائر مالية للدولة قدّرت جزافا بمئات المليارات.
وبعد التهديد بحلها لانتهاء الموجب، وفي خضم حملات تشويه شديدة، واتهام لها بإرهاق ميزانية الدولة وبالتراخي لإنجاز مهمتها وارتكاب أخطاء وخسائر بمئات المليارات، طويت صفحة اللجنة المستقلة بعد هيمنة السياسة عليها وسط حملة إعلامية وصفتها بأنها “تأخذ ولا تعطي” شيئا للدولة!
بالنسبة للأموال المجمدة بالخارج، سويسرا نموذجا، كان من المفترض أن تصدر أحكام من القضاء التونسي، تثبت تورط العصابات المتنفذة إبان حكم بن علي في نهب المال العام.
صدور مثل هذه الأحكام من المفترض أن لا تدوم أكثر من بضع سنين، حتى ولو وقع اللجوء إلى كل درجات التقاضي بما فيها التعقيب. لكن لأسباب ترجع أساسا لعدم اكتمال استقلالية القضاء التونسي، لم يقع ذلك ولازالت الأمور تراوح مكانها.
بعد 2015، اقتصرت تدخلات لجنة المصادرة على تأكيد الحضور وعلى اتخاذ، من حين لآخر بعض الإجراءات الرمزية، كبيع عربات هنا ومصادرة قطعة أرض هناك، في أداء اشبه بذر الرماد على العيون.
أما الأموال المجمدة بالخارج، ولحاجتها لأحكام قضائية باتة ضمن إجراءات تحترم حقوق التقاضي والدفاع، فلم يقع التقدم فيها بتاتا، واقتصر العمل على الملفات التي نظر فيها القضاء، بل تمكن القضاء من البت فيها إبان حكومة الترويكا، لما كانت الإرادة السياسية متوفرة ووقع احترام استقلالية لجنة المصادرة.
النموذج السويسري
بعض البلدان اختارت التعمية الكاملة عن الأموال التونسية المنهوبة بل والتغطية على المجرمين، الإمارات العربية المتحدة نموذجا. اختارت سويسرا الطريق المعاكس، عبر إصدار قانون يتيح تجميد أصول الشخصيات المرتبطة بالنظام القديم حتى قبل إيداع السلطات التونسية طلبات التعاون القضائي الدولي.
بشكل واضح، خففت سويسرا مهمة تونس بالإذن بالتجميد المؤقت لأموال المشتبه بهم دون إذن قضائي تونسي أو سويسري، وذلك في انتظار قيام الدولة التونسية وقضائها بما يجب القيام به لإسترجاع الأموال محل التجميد.
من حيث المبدأ كان يجب أن يتمتع الأشخاص محل إجراءات التجميد بقرينة البراءة حتى تتحرك الدولة التونسية وتثبت وجود شكوك جدية تسمح بالإجراءات الاحترازية وتجميد الأموال.
لكن القانون السويسري حرمهم من هذه القرينة وأمر بالحجز لمدة أقصاها عشر سنوات، إلى حين تمكن السلطات التونسية من عمل اللازم قضائيا.
القانون السويسري جعل المدة القصوى لتجميد الأموال موضوع النزاع عشر سنوات. والبرلمان هو الجهة الوحيدة المخولة بتغيير هذا القانون.
في 13 ديسمبر 2019، استغل المجلس الفدرالي هذا الحد الأقصى وجعل تونس وأوكرانيا تستفيدان من التمديد لغاية جانفي 2021 لتونس وفيفري 2021 لأوكرانيا.
رغم حرص وضغط رئيس الجمهورية منذ ستة أشهر تقريبا لتحريك هذا الملف، ورغم اتصالاتنا العديدة والكافية كتابيا مع مختلف الجهات الفاعلة، فقد طغى التعامل بالصمت المطلق على الموضوع، ولم يقع الإتصال بنا لطلب المعلومة والتدخل إلا يومين فقط قبل انتهاء المهلة، يعني أثناء عطلة أخر الأسبوع وقبل انتهاء الآجل بيومين فقط.
طبعا لم يكن بالإمكان عمل أي شيء وكان يجب على الجميع تحمل مرارة فقدان ميزة القانون السويسري والاقتصار على العمل على ما تبقى فقط.
بحسب المكلف العام بنزاعات الدولة، الأستاذ القاضي علي عباس، فإن طلبات التعاون القضائي التي سبق وأن قدمتها تونس لسويسرا تغطي أغلب المال المحجوز.
وهذا يعني، أن المبلغ الذي نجحت تونس في تواصل الحجز عليه في انتظار الأحكام القضائية قد لا يتجاوز ال50 مليون فرنك، أي 150 مليون دينار تونسي في أفضل الأحوال.
طبعا نقول بأن طلبات التعاون القضائي التونسية يعود أغلبها إلى فترات النقاء السياسي والعافية القضائية.
فلجنة المصادرة لم يعد لها القدرة على تجاوز السقف السياسي الذي وضعته أساسا حكومة الشاهد ولا يزال هذا السقف قائما، رغم محاولات رئيس الجمهورية زحزحته عن كاهل القضاء.
وقد عادت لهذا الملف أهميته منذ اهتمام قيس سعيد به والذي يعتبره، وهو محق تماما في ذلك، مسألة كرامة وطنية بالأساس.
تحت ضغطه الشديد في الآونة الأخيرة، تحركت الجهات السياسية في اتجاه رفع اليد عن إدارة أملاك الدولة وعن مصلحة النزاعات.
وينكب اليوم الأستاذ علي عباس على هذا الملف الشائك الذي ورثه من أسلافه في حالة من الفوضى الرهيبة وغياب التنسيق بين مختلف إدارات الدولة.
شخصيا اعتبر القاضي علي عباس قادرا على إحداث الفارق وإرجاع هيبة القضاء لهذا الملف بعد ما نالها من تنكيل منذ 2015.
لا يضير اليوم، وقد عجزت الإدارة التونسية عن استكمال الإجراءات اللازمة لإثبات تجميد الأموال بسويسرا، من التنويه إلى أن القضاء حتى اليوم، لم يصدر أحكاما نافذة في جل الأموال التي سيتواصل تجميدها بسويسرا.
فإلى جانب انتهاء مهلة تغطية كل المبلغ، وهو لا يتجاوز 57 مليون فرنك، أي 171 مليون دينار، فإن خطر انتهاء التجميد لكل المبلغ أو جله لا يزال قائما في ضل غياب التحرك السريع والكافي للسلط القضائية التونسية.
ولعل عدم القيام بالإجراءات اللازمة ضد المتهمين المعلومين إلى اليوم، يطرح ألف سؤال عن سبب هذا البطيء في التعامل القضائي وأسبابه.
قد يفيد أن نسرد ما ورد في التصريح الإعلامي للخارجية السويسرية وما لذلك من إشارة واضحة لتقصير الجهات التونسية في التعاطي مع هذا الملف “إن آفاق استعادة الأموال تعتمد الآن على تقدم الإجراءات الجنائية التونسية والتعاون القضائي”.
هي إذا معركة حقيقية يجب أن يساهم فيها الجميع لدعم السلطة القضائية والجهات التنفيذية، وهي تتجاوز سويسرا لغيرها من البلدان المتعاونة وغير المتعاونة.
وبدون ظهير شعبي، لن تستطيع الرئاسة لوحدها إحداث الأثر والضغط الكافي على لوبيات فاسدة تتمترس وراء إعلام أفسد منها يكتب وينعق لمن يدفع له.
ولعل السكوت التام على عدم تعاون سلطات أبو ظبي لمثال جلي لما يستجوبه هذا الملف من يقظة وصبر.
هو حقا عنوان من عناوين تحقيق كرامتنا الوطنية بعد الثورة.
*الكاتب: رضا العجمي: حقوقي ومحامي مقيم بسويسرا