ظلّ ملف الثروات الطبيعية في تونس، منذ استقلالها سنة 1956، أحد أهم الألغاز التي لم تسمح الأنظمة المتتالية بالخوض فيها، فما لبثت الأجهزة الدعائية الرسمية تروّج لفقر تونس من الثروات الطبيعية وأن الثروة الوحيدة هي القدرات البشرية العلمية، فخرج الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ليواجه الشعب التونسي المطالب بثرواته وأخبره “جازما” أنّ “المادة الشخمة” هي الثروة الوحيدة التي تملكها تونس.
المادة الشخمة” هي الثروة الوحيدة التي تملكها تونس
الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة
انتقد أعضاء لجنة الصناعة والطاقة والثروات الطبيعية والبنية الأساسية والبيئة منعهم من الدخول لحقل “نوارة” في صحراء تطاوين خلال الزيارة التي أداها أعضاء اللجنة لعدد من حقول النفط في الجنوب التونسي.
ونشرت النائب عن التيار الديمقراطي منيرة العياري أن التعتيم لا يزال يحوم حول “اللغز الكبير” لحقل “نوارة” مشيرة إلى أنه تم منع النواب من زيارة الحقل من الداخل مع الاكتفاء فقط بمعاينة من خارج السور.
وقالت إن “الشركة الأجنبية مسيطرة على الأمور والشركة الوطنية مسكينة” مؤكدة أن النواب لم يتمكنوا من معاينة العدادات، كما تم منعهم من دخول الإدارة ومركز التحكم.
في نفس الإطار، أكدت النائب عن حركة الشعب ليلى الحداد، في تصريحات إعلامية، منع النواب من دخول حقل “نوارة” بتعلة الدواعي الأمنية.
موقع “الصدى” حاول في هذا الملف الشهري, رفع الوعي بأهمية الثروات الطبيعية في تونس وكيفية المحافظة عليها.
وسعى الموقع من خلال تقديم الأرقام والإحصائيات والمعطيات إلى ملامسة واقع ومستقبل ملف الثروات.. ونهدف من خلال هذا الملف إلى رفع الوعي لدى التونسيين حول أهمية الثروات الطبيعية.
وهنا ترى الأستاذة فوزية باشا، المحامية والخبيرة في العقود النفطية، أنّ التعتيم بدأ منذ الاستقلال نظرا إلى العلاقة المباشرة بين اتفاقية الاستقلال والمجال الاقتصادي، وخاصة العقود النفطية منها.
وتقول باشا، في لقاء جمعها بـ”الصدى” أنّ “تونس لا سلطة فعلية لها على قطاع الطاقة باعتبارها بقيت مقيدة بعقود أبرمت تحت الحماية الفرنسية والأمر ينطبق على اتفاقيات الاستقلال الداخلي المبرمة في 3 جوان 1955، فمن بنودها أن تلتزم الحكومة التونسية بعدم مراجعة هاته الاتفاقيات سواء النفطية منها أو الثروات عموما إلا بموافقة الطرف المقابل بمعنى أنّه حاليا أكثر من ثلث العقود النفطية في تونس لازالت تحت سيطرة منظومة قانونية للأمر العلي لسنة 1948 أي قبل الاستقلال بعشرية كاملة، وهذه العشرية كانت تحضر فيها فرنسا لضمان تواجدها الاقتصادي الدائم في تونس بعد خروجها العسكري، أي بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو ما تمّ فعلا بمقتضى اتفاقية جوان 1955”.
تونس لا سلطة فعلية لها على قطاع الطاقة باعتبارها بقيت مقيدة بعقود أبرمت تحت الحماية الفرنسية
الأستاذة فوزية باشا عمدوني

بعد الثورة سقط جدار الخوف والحجب والقمع، فألحت عدد من مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية – بدرجة أقل – على اعتماد الشفافية في تناول هذه المسألة والكشف عن حقيقة الثروات الطبيعية لتونس وكيفية تصرف الدولة فيها طوال هذه العقود.

ذلك أنّه، ما انفكّ ملفّ الثروات الطبيعية التي تحوزها تونس يتصدّر الواجهة ويشغل الرأي العام، في ظلّ تغوّل الشركات الأجنبية وسيطرتها على القطاع وتسلّطها على نصيب الأسد من ثروات تونس، الأمر الذي دفع منظمات وجمعيات إلى المطالبة بضرورة مراجعة الاتفاقيات التي وقعتها الدولة منذ عقودٍ خلت (الاتفاقيات الاقتصادية المضمنة لاتفاقية الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1961) والتي ورطّت في تبِعاتها أجيالا.
بدوره موقع “الصدى”، حاول، في بحثه، فكّ اللغز والوقوف على حقيقة ما تملكه الدولة التونسية من ثروات، فضلا عن سبل التخلّص من التبعية الجاثمة على محرّك الاقتصاد التونسي رغم “الاستقلال الوهمي”.

المحور الأول: قوانين الإدارة الغامضة للثروة الوطنية
تحولت مسألة الثروات الطبيعية إلى واحدة من أهم القضايا التي حظيت باهتمام الرأي العام، ومع تتالي انكشاف الأسرار والفضائح حول ما تعرض له الشعب من تغييب وتلاعب، بدأت الحقائق التي تناولتها بعض وسائل الإعلام والجمعيات والخبراء في استنهاض الوعي الجماعي لشعب غرق في المشاكل الاقتصادية والاجتماعيّة، وتمحورت النقاشات أساسا بشأن قطاع النفط والغاز، والملح، والفسفاط.
فرغم إقرارنا بضعف القدرة الإنتاجية النفطية لتونس، مقارنة ببقية الدول النفطية، فإن المسألة تتعلق بالأساس في كيفية إدارة تلك الموارد، فإيرادات النفط والغاز تبقى ملكا للشعب التونسي وثروة وطنية يجب أن تخضع للمراقبة والتقسيم العادل.


وهو ما أكّدته ضيفتنا، الأستاذة فوزية باشا، فرغم أنّ “لدينا مجلة المحروقات، ولدينا العديد من القوانين بعد الاستقلال ولدينا مرسوم 85، إلا أنّها بقيت كلها تدور في فلك الاتفاقيات الاستعمارية، وأنه ليس لتونس سلطة مباشرة -على ثرواتها- وكأنها تستجدي هذه الشركات المتعددة الجنسيات للاستثمار في قطاع النفط في تونس وقطاع الطاقة عموما مقابل تسهيلات، وهذه التسهيلات هي التي أدّت إلى فقدان تونس ممارسة السلطة والسيادة الفعلية على ثرواتها”، بحسب قولها.
ليس لتونس سلطة مباشرة -على ثرواتها- وكأنها تستجدي هذه الشركات المتعددة الجنسيات
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وتعود مشكلة هذا القطاع بحسب مصدرنا إلى التساهل الغريب في إسناد تراخيص التنقيب والاستغلال وانعدام الرقابة على أنشطة تلك الشركات ومدى تقدّم عمليات التنقيب أو العائدات الحقيقية للاستغلال.
فقد كشفت وثيقة نشرتها خلال شهر ماي من عام 2013 شركة النفط Candax والحاصلة على امتياز استغلال حقل “ربّانة”، عن انتهاك خطير في حقل “مزران 1” المجاور والذي تمّ حفره بين 15 أكتوبر الشركة و5 ديسمبر 2003، إذ تؤكّد الوثيقة أن هذا الحقل قد دخل فعلا مرحلة الاستغلال، وأن ما ينتجه تخزّنه داخل خزان نفط في جرجيس، مع العلم أن هذه الشركة لم تحصل إلا على رخصة تنقيب لا غير.
هذا وكشف تقرير دائرة المحاسبات عدد 27 الصادر في سنة 2012 والمتعلق بمراقبة التصرف في قطاع الطاقة خلال سنة 2011 عن سوء إدارة قطاع الطاقة، والفساد فيه، ولم يشكك أحد في فحوى التقرير، حتى أنّ المسؤولين عندما وقع مواجهتهم بهذا التقرير لم ينكروا ما جاء فيه وتجدد إثبات الفساد في الطاقة خلال التقرير عدد 28 في بعض أبوابه وتدعم هذا الفساد وهذه التجاوزات من طرف السلطة الفعلية بتقرير الهيئات الثلاث، وفق تأكيد الأستاذة فوزية باشا.
وفي سبتمبر 2013 أصدرت حكومة “الترويكا” مهمة رقابية ثلاثية متمثلة في الهيئة الرقابية التابعة لرئاسة الحكومة، والهيئة الرقابية لوزارة أملاك الدولة والهيئة الرقابية لوزارة المالية، وذلك عقب اغتيال البراهمي وبعد تحريك حكومة “الترويكا” ملف الطاقة، ونذكر بالملف الكبير الخاص بشركتي التنقيب عن النفط ” VOYAGEUR” و”ANADARKO” أو ما سمي حينها بقضية “السبسي غايت”.
وفي هذا الصدد أكّدت الأستاذة المحامية والمختصة في عقود الطاقة، أنّه خلال تقرير بحوالي 600 صفحة وردت نتائج المهمة الرقابية الثلاثية في أوت 2014 أي زمن حكومة المهدي جمعة إلا أنّه آنذاك، لم ينشره ولم يتم تداوله إعلاميا إلا بعد أن أثاره المجتمع المدني إثر تسريب نسخة منه وقد تم تناوله أيضا من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ضمن ندوة مشتركة مع المجتمع المدني في ما يخصّ الفساد في الطاقة.
وتعهدت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالعديد من الملفات التي تسلمتها من قبل مكونات المجتمع المدني في ما يتعلق بالطاقة عموما، هذا فضلا عن تعهد القطب القضائي بالعديد من الملفات في ذات القطاع، و”نحن نعلم جيدا أنّه لا يتم فتح تحقيق في ملفات لدى القطب القضائي المالي إلاّ بعد ثبوت شبهة فساد، وهو ما جعل القطب يباشر التحقيق في العديد من رخص التنقيب والاستغلال مرتكزا بالأساس على تقارير الهيئات الرقابية التي تسلمت الوثائق واطلعت على العقود بما في ذلك العقود المنشورة آنذاك في الموقع الرسمي لوزارة الصناعة أو وزارة الطاقة والمناجم عندما تم إفرادها بوزارة”، وفق تعبير باشا.
إذن، فقد مكّنت عمليات المراقبة التي تقوم بها دائرة المحاسبات من تحديد العديد من أوجه القصور في قطاع الغاز، والتي تمثّلت في الإدارة الارتجاليّة للموارد الطبيعية ووجود “مافيا” تستفيد من موارد الطاقة على حساب المصلحة العامة.
أوجه القصور في قطاع الغاز تمثّلت في الإدارة الارتجاليّة للموارد الطبيعية ووجود “مافيا” تستفيد من موارد الطاقة على حساب المصلحة العامة
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وأظهرت التحقيقات التي أجرتها لجنة التحقيق الوطنية حول الفساد والاختلاس، استنادا إلى وثائق عُثر عليها في مكتب رئيس الجمهورية المخلوع بن علي، وجود شبكة من المتورطين في ممارسات مشبوهة في علاقة بالمؤسسات العموميّة التي تعمل في قطاع الطاقة، وهذا بالتواطؤ مع مقيمين بالخارج.
من جهتها، تلقت هيئة الحقيقة والكرامة العديد من الشكاوى للتحقيق في استنزاف الثروات الطبيعية التونسية لصالح فرنسا، وهو ما دفع الهيئة إلى نشر وثائق عام 2017 فضحت تنازلات طوعية من قبل الحكومة التونسية وذلك لتمكين الشركات البترولية الفرنسية من التنقيب عن النفط بتونس ونهبه دون تحقيق أي مصالح للجانب التونسي.
إنّ المعطيات التي توصلنا إليها تشير بأصابع الاتهام إلى الإدارة الغامضة للملف الطاقي في تونس ذلك أنّ الفساد هو أولا وبالذات مسؤولية الفساد السياسي، الذي انطلق بتاريخ الاستقلال الذاتي في 3 جوان 1955، وهنا طالبت الأستاذة فوزية باشا بوجوب مراجعة الاتفاقية الاقتصادية و المالية وخاصة منها الفصل 27 و28 إلى حدود الفصل 32 التي التزمت فيها الحكومة التونسية بعدم مراجعة العقود النفطية، وهو ما تواصل – وفق تقرير دائرة المحاسبات عدد 32 – الذي أقرّ ضمن تقريره سنة 2018، أنّ هناك شركات نفطية لم تخضع إلى الرقابة منذ تأسيسها أي منذ إنشائها في أوائل الستينات.
الفساد هو أولا وبالذات مسؤولية الفساد السياسي، الذي انطلق بتاريخ الاستقلال الذاتي 3 جوان 1955
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وتجدر الإشارة، إلى أنّه تمّ إنشاء هذه الشركات على أساس عقود مبرمة قبل الاستقلال، كما اعتبرت محدثتنا، أنّ التاريخ والنتائج والأبحاث وعدد الشركات التي تجاوزت الـ73 والمناطق النفطية المحظورة على دخول التونسيين والحماية العسكرية التي تم إقرارها على المنشآت النفطية بعد حملة “وينو البترول” سنة 2014، وما بعدها، أثبتت أنّ تونس – لا جدل في ذلك – لها ثروة نفطية محترمة ثابتة تاريخا من خلال الصادرات، ففي سنة 1980 مثلت الثروة النفطية 50 بالمائة من صادرات تونس، وأثبتها إنضمام تونس سنة 1986 في عهد وزارة محمد مزالي إلى المنظمة العربية للدول المصدرة للنفط.
التاريخ والنتائج والأبحاث وعدد الشركات.. والمناطق النفطية المحظورة والحماية العسكرية .. على المنشآت النفطية .. أثبتت أنّ تونس لها ثروة نفطية محترمة
الأستاذة فوزية باشا عمدوني

وهذه المنظمة تخول للدول الأعضاء، الحق في أن تشتري النفط من بعضها البعض بأسوام تفاضلية وتخول لها أيضا في أن تطالب بمراجعة العقود النفطية المبرمة زمن الاحتلال أو حتى زمن الاستبداد وتساندها.
ولقائل أن يقول أنّنا نلنا إستقلالنا تماما في 20 مارس 1956، لكن للأسف الشديد فضلا عن أنّ هذا التاريخ غير منشور في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية وغير مصادق عليه من قبل مجلس النواب باعتبار عدم وجوده، إلا أنّه مع ذلك تبنى أحكام اتفاقية 3 جوان 1955 وهي منشورة في الرائد الرسمي وأيضا مع الأسف الشديد صادق عليها مجلس النواب الفرنسي آنذاك ومنشورة أيضا في الرائد الرسمي للجمهورية الفرنسية، وهذا ما جعل أنّ هذه الاتفاقية لا يمكن أن تلغى ببروتوكول الاستقلال، ولا يمكن أن تلغى إلا بمقتضى قانون وفي أقصى الحالات بموافقة من الدولتين وهو ما لم يتم إلى حدّ الآن”، وفق قول الأستاذة فوزية باشا.
إذن، فالمسؤولية سياسية وقد آن الأوان أن تتحمل الجهات السياسية أمانتها التاريخية في ردم هذه الثغرات والتجاوزات التي حرمت الشعب التونسي من مداخيل قارة وثابتة لا غبار عليها مصدرها ثرواته الطبيعية.
آن الأوان أن تتحمل الجهات السياسية مسؤوليتها في الثغرات والتجاوزات التي حرمت الشعب التونسي من مداخيل قارة وثابتة في ثرواته النفطية
الأستاذة فوزية باشا عمدوني

المحور الثاني: حقيقة الثروات التونسية
بشأن الأرقام الحقيقية لمخزون النفط التونسي، تشير الوثائق التي نشرها موقع وزارة الطاقة -واستنادا للأرقام والعقود- إلى أنه يبلغ ما يعادل 425 مليون برميل من النفط الخام، ويغطي الإنتاج المحلي ما نسبته 49% من احتياج قطاع الطاقة بالبلاد، وقد بلغ عدد حقول التنقيب 52 حقلا كما تم منح 29 رخصة استكشاف جديدة.

مخزون النفط التونسي.. يبلغ ما يعادل 425 مليون برميل من النفط الخام، ويغطي الإنتاج المحلي ما نسبته 49% من احتياج قطاع الطاقة بالبلاد، وقد بلغ عدد حقول التنقيب 52 حقلا كما تم منح 29 رخصة استكشاف
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
ويدار قطاع المحروقات من قبل الشركة التونسية للأنشطة البترولية بالشراكة مع شركات أجنبية حيث تهمين الشركات الأمريكية على الحصة الأكبر من السوق بنسبة تبلغ 38%، تليها الشركات الأوروبية بنسبة 19%، وبعدها الشركات الكندية بنسبة 12%، وتحل أخيرا الشركات الآسيوية بنسبة 10% حتى منتصف عام 2018.
وقد بدأ الحديث عن العجز الطاقي في تونس بالتزامن مع ظهور مجلة المحروقات والتحويرات المتتالية التي شملتها، وقد دخلت المجلة حيز التنفيذ سنة 2000 بعد أن تم إحداثها سنة 1999 بطلب مباشر من الشركات الأجنبية لتسهيل عمليات منح وإحالة رخص البحث عن النفط، وهناك تصريحات مباشرة أنه تم إحداثها بسعي وتنسيق من الشركات المتعددة الجنسيات والتي ذكرت بصريح العبارة أنه لا يمكن أن يمر كل تجديد وكل تمديد لعقد نفطي بمجلس نواب الشعب.
بدأ الحديث عن العجز الطاقي في تونس بالتزامن مع ظهور مجلة المحروقات والتحويرات المتتالية التي شملتها، وقد دخلت المجلة حيز التنفيذ سنة 2000
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وتم منح هذه الشركات عديد الامتيازات خاصة الجبائية منها، كما تم منح بعض الشركات التي لا ترغب في الانضمام إلى قانون 99، الحق في ذلك وبالتالي أي تجديد أو تمديد أو ترخيص للاستغلال، لا يمر بالضرورة عبر البرلمان بل يتم بمجرد قرار من طرف وزير الصناعة.
وبالنسبة الى التنقيحات المتتالية، هناك منها 3 قبل الثورة وذلك لجعل هذه المجلة على مقاس ومصلحة الشركات النفطية.
وواصلت قائلة “هذا العجز الطاقي، حسب رأيي، هو في علاقة مباشرة بإصدار مجلة المحروقات التي جردت الدولة التونسية من كل وسائلها الرقابية على منح الرخص واستغلال الآبار والمحاسبة على الإنتاج وكميات الإنتاج ووضح ذلك تقرير دائرة المحاسبات عندما قال مباشرة إنّ 50 بالمائة من عدادات الإنتاج في حقول النفط في تونس لا عدادات بها، وأكثر من ذلك ما تسجله الشركات النفطية من إنتاج نصادق على تلك الكميات دون أن يكون لنا عداد موازي سواء في النفط أو في الغاز طبق ما توجبه المعايير الدولية في الشفافية في الصناعات الاستخراجية. ففي حال امتلاك الدولة التونسية لعداداتها والاختلاف في الكمية نلجأ إلى التحكيم أو إعادة رقابة أو مراجعة فواتير التصدير، وكلها طرق تخول للدولة التونسية مراقبة كميات الإنتاج إلا أنه لا يتم ذلك”.
التنقيح المباشر الذي حدث سنة 2014 وسنة 2015، كان بمثابة الإعدام للفصل 13 من الدستور.. ولجنة الطاقة أصبحت بمثابة صندوق بريد لا أكثر لا أقل
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
بعد الثورة، وإثر دستور 2014 وبعد الفصل 13 الذي منح السلطة المطلقة في قطاع الطاقة لمجلس نواب الشعب عن طريق لجنة الطاقة فإنّ عقود النفط أصبحت تمرّ وجوبا على البرلمان لأن الثروات ملك للشعب التونسي، “هذا الفصل أحدث زوبعة بالنسبة إلى الشركات النفطية التي لم تتوقع حدوثه، وضغطت كثيرا آنذاك من أجل محاولة إضعاف الفصل إلا أنّه مرّ، لكن التنقيح المباشر الذي حدث سنة 2014 وسنة 2015، كان بمثابة الإعدام للفصل 13 من الدستور، ومع ذلك لازال هناك صراع على ما يسمى بلجنة الطاقة، رغم أنّ هذه اللجنة أصبحت بمثابة صندوق بريد لا أكثر لا أقل خاصة مع من يتقلدها الآن سواء بالمصادقة أو مباركة تجاوزات الشركات النفطية لحقوق الشعب التونسي في ثرواته الطبيعية”، وفق تعبير باشا.

الغاز: قضية “بتروفاك” نموذجا
لم يكن الفساد مقتصرا على الجانب النفطي بل إنه وصل إلى قطاع الغاز الذي يقدر احتياطي تونس منه حوالي 2.3 تريليون متر مكعب، ويعتبر حقل “ميسكار” أكبر الحقول في تونس إلا أن الحكومة تخلت عنه عام 1995 بامتياز منح لشركة بريطانية، وتوفر الشركة اليوم 60% من إنتاج الغاز المنزلي التونسي من هذا الحقل.
حقل “ميسكار” أكبر الحقول في تونس إلا أن الحكومة تخلت عنه عام 1995 بامتياز منح لشركة بريطانية، وتوفر الشركة اليوم 60% من إنتاج الغاز المنزلي
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وقد قامت الحكومة التونسية بشراء كامل إنتاج هذا الحقل عام 2000 وبالعملة الصعبة، مما تسبب في عجز للشركة التونسية للكهرباء والغاز.
قضيّة “بتروفاك” والمواجهة مع أهالي جزيرة قرقنة، كانت محور الاهتمام الشعبي والإعلامي والرسمي في أوت سنة 2018، بعد تتالي تهديدات الشركة البريطانية بإغلاق فرعها التونسي المستغلّ لحقل غاز “الشرقي”، في أزمة انفرجت عقب صياغة مسودّة اتفاق أولي، تضمن جملة من البنود والقرارات المتعلقة بتسوية أوضاع عمال منظومة البيئة والوضع التنموي بالجزيرة بشكل عام.
وانطلق نشاط شركة “بتروفاك” في تونس في شهر أوت من سنة 2006، بعد مصادقة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية -التابعة لوزارة الصناعة-على مذكّرة اتفاق تمّ بموجبها إحالة 45 بالمائة من الامتياز إلى الدولة.
ويعود هذا الامتياز في الأصل إلى ما يعرف “برخصة بحث قرقنة الغربية” الذّي تمّ المصادقة عليه في 18 جوان 1980 لصالح شركة OMV النمساوية التّي ظلّت تستغل هذه الرخصة إلى حدود سنة 2006.
وإنّ دخول “بتروفاك” على الخطّ، لم يكن وفق المسارات القانونية لصفقات الاستغلال، حيث تدخّلت المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية لتمارس حقّها في الشفعة بعد إعلامها من الشركة النمساوية بنيتها التفويت في حصّتها لصالح شركة آل ثاني الإماراتية بقيمة 27 مليون دولار.
عملية الظفر بالامتياز، لم تخلو من المساومات والتجاوزات التي تمّ التكتم عليها طيلة السنوات الخمس التالية، حتّى كشفتها دائرة المحاسبات في تقريرها عدد 27 لسنة 2011. حيث أفاد التقرير أنّ الشركة التونسية للأنشطة البترولية صادقت على الاتفاق مع “بتروفاك” على الرغم من أن دراسة الجدوى التي تمّ عرضها على مجلس الإدارة في جويلية 2006 أثبتت أن الفرضية المتمثّلة في شراء حصة OMV وتطوير الحقل من قبل المؤسسة التّونسية للأنشطة البترولية يعد الأفضل من ناحية المردودية الاقتصادية.
التجاوزات لم تتوّقف عند هذا الحدّ، حيث يكشف التقرير المذكور في ما بعد أنّ الشركة التونسية للأنشطة البترولية لم تقم بعرض مشروع التفويت إلى “بتروفاك” على الرأي المسبق للّجنة الاستشارية للمحروقات حيث لم تقدم مطلبا إلى اللّجنة المذكورة للحصول على التّرخيص في إحالة جزء من حقوقها والتزاماتها في امتياز الشرقي لفائدة شركة بتروفاك طبقا لمقتضيات الفصل 55 من مجلّة المحروقات إلاّ بتاريخ 14 نوفمبر 2006 وذلك على سبيل التسوية في حين أنّ عملية التفويت منذ 9 أوت 2006.
كما لم تتقيد المؤسسة التابعة لوزارة الصناعة بالتشريعات المتعلّقة بتخصيص وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية حيث تمّ تجاهل إنجاز تقييم مسبق للحصّة موضوع الإحالة فضلا عن إلزامية اللّجوء إلى المنافسة بهدف اختيار المشتري صاحب العرض الأفضل، وهو ما يعني ان بتروفاك تقدّمت لنيل الصفقة دون الاضطرار للمنافسة أو الاجتهاد لتحسين عرضها لدى السلطات التونسية.
تفاصيل الصفقة التي كشف عنها تقرير دائرة المحاسبات، والتي نالت بموجبها الشركة البريطانية امتياز استغلال حقل الشرقي بقرقنة، لم يحقّق أية أرباح من هذه العملية المزدوجة حيث تولّت الشركة التونسية للأنشطة البترولية اقتناء 49 % من امتياز “شرقي” بقيمة جملية ناهزت 30 مليون دولار وقامت فيما بعد ببيع 45 % منه لشركة بتروفاك بمبلغ جملي قدره 27 مليون دولار، وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات حول دوافع الشركة التونسية للتفريط في نسبة من اكتشاف ثابت للغاز (أي دون أن يتحمل المشتري مخاطر البحث باعتبار أن الحقل قد دخل طور الإنتاج منذ سنة 1980) وعدم مراجعة أسعار البيع والسعي لتحقيق عوائد من الصفقة لصالح الخزينة العمومية.
ويذهب تقرير دائرة المحاسبات إلى أنّ عقد الشراكة بين “بتروفاك” والطرف التونسي قد منح العديد من الامتيازات للمشتري على حساب الشركة الوطنية، وهو كبّد المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية تكاليف إضافية مقارنة بما كانت عليه التزاماتها وفقا للعقد المبرم مع شركة OMV إضافة إلى التوسيع من صلاحيات شركة بتروفاك عند التّصرف في الامتياز على حساب صلاحيات الشريك (المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية).
عقد الشراكة بين “بتروفاك” والطرف التونسي منح العديد من الامتيازات للمشتري على حساب الشركة الوطنية، وهو ما كبّد المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية تكاليف إضافية
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
ويختم التقرير المذكور بالتأكيد على أنّ صيغة الاتفاق بين الطرفين تضمن عدم تمكّن المؤسسة التّونسية للأنشطة البترولية من المتابعة اللّصيقة والتّحكّم في التّكلفة الجملية لمختلف عناصر المشروع، على غرار عدم حصول المشغّل “بتروفاك” على المصادقة المسبقة للجنة العمليات فيما يتعلّق بالصفقات التي يتجاوز مبلغها 300 ألف دولار واللّجوء المكثّف لأذون التّزويد.
بنود وملابسات الاتفاق الذّي تمّ بموجبه “إهداء” غاز حقل الشرقي بقرقنة لشركة “بتروفاك” منذ عشر سنوات، أجاب عنه تقرير اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد لسنة 2011. ويؤكّد التقرير أنّ اللجنة استطاعت الوصول إلى ملفّات تفيد بتورّط المدير العام لشركة “بتروفاك” عماد درويش في عمليات رشوة واختراق للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، مستفيدا من علاقته بصهر الرئيس السابق زين العابدين بن علي، منصف الطرابلسي. والذّي وصفته اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق “بالذراع الأيمن” لصهر الرئيس. وتتلخّص تلك التجاوزات في حقّ المؤسسة العمومية ببيع أسرار مهنية تتعلق بالصفقات العمومية ومعطيات خاصّة بالأسعار المقدّمة من المنافسين.
الملح
شكلت اتفاقية استغلال الملاحات عام 1949 لغزا منذ تاريخ إبرامها مع شركة فرنسية، وقد منحت الشركة احتكار الملح مقابل ضريبة بسيطة على الأرض لم تتجاوز الفرنك الفرنسي الواحد لكل هكتار في العام وفق ما تقضي المادة 11 من الاتفاق المبرم بين الطرفين باستغلال الشركة لسباخ تونس، وبقيت شركة الملح خارج أي منافسة حتى أصدر قانون عام 1994 يقضي بفتح الباب للمستثمرين الفرنسيين، لكنهم في الوقت ذاته شكوا من استمرار الهيمنة الفرنسية على هذا القطاع.
شكلت اتفاقية استغلال الملاحات عام 1949 لغزا منذ تاريخ إبرامها مع شركة فرنسية
الأستاذة فوزية باشا عمدوني

ويعتبر “الملح”، من الثروات الطبيعية التي يطالب التونسيون بكشف حقيقة استغلالها واستحواذ فرنسا على عائداتها منذ أكثر من ستين سنة.
ويتراوح إنتاج الملح في تونس بين 1.5 مليون ومليوني طن سنويا، ويتم تخصيص 100 ألف طن منها للاستهلاك المحلي وتصدير بقية الإنتاج إلى الخارج وخاصة نحو النرويج والدنمارك وأيرلندا، وتستحوذ الشركة الفرنسية “COTUSAL” على ثلثي الإنتاج.
يتراوح إنتاج الملح في تونس بين 1.5 مليون ومليوني طن سنويا، ويتم تخصيص 100 ألف طن منها للاستهلاك المحلي
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وتأسست الشركة العامة للملاحات “COTUSAL” بمقتضى اتفاقية صادرة بـ “أمر علي” (صادرة عن الباي) في 3 أكتوبر 1949، بغرض استخراج الملح البحري من الأراضي الدولية في الجنوب التونسي لمدة 50 سنة، (ينتهي العقد سنة 1989)، إلا أنه تمت مواصلة العمل بالاتفاقية على الرغم من عدم قانونيتها.
وحسب وزارة الصناعة ، فإن هذه الشركة هي الوحيدة التي لا تخضع لـ “مجلة المناجم” (قانون ينظم عملية استغلال الثروات الطبيعية في تونس)، بحكم أن عملية الاستغلال للأرض بدأت قبل الاستقلال التونسي سنة 1956، وبهذا أصبحت غير ملزمة بقوانين استغلال الثروات المتبعة مثل بقية الشركات.
ويؤكد العديد من الخبراء تكبد الدولة التونسية خسائر كبيرة في مستوى تأجير السباخ لصالح هذه الشركة، تفوق 1.97 مليار دولار سنويًا.
وأرسلت وزارة المالية في شهر ماي من سنة 2013 وثيقة إلى وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي تكشف أنّ الشركة العامة للملاحات التونسيّة “كوتيزال” تخلّفت عن دفع مستحقّاتها الجبائيّة للدولة التونسيّة. وقد طلب رئيس الديوان في هذه الوثيقة إلغاء العقد الموقّع منذ سنة 1949، والذّي طالما كان موضع جدل دون أيّ نتيجة تذكر.
وتضمّنت هذه الوثيقة قيمة الإتاوات المتخلّدة على شركة (COTUSAL) والتي بلغت قيمتها 5,7 مليون دينار إثر تهرّبها عن دفع مستحقّاتها تجاه الدولة التونسيّة طيلة خمس سنوات بين سنتي 2007 و2012. كما ذكّر رئيس ديوان الوزارة في هذه المراسلة بإمكانية فسخ العقد المبرم بين الدولة والشركة المعنيّة وفق الفصل 18 من الاتفاقيّة التي تمّ إمضاؤها بين الطرفين.
ورغم أن الاتفاقيّة قد خضعت للتعديل في ثلاث مناسبات كان آخرها 15 جوان 1975، إلا أن التعديلات اقتصرت على مراجعة مساحة سطح امتياز الاستغلال، مرتين لمزيد من التوسع ومرة لتقليصه دون أن تشمل مسألة العائدات الماليّة ونصيب الدولة فيها.
ولو نعود الى المادة 34 من اتفاقية الاستقلال الذاتي فإنها تنص على “أن آجال اللزم والاتفاقات ورخص التفتيش والاستثمار التي هي الآن مبرمة أو ممنوحة لا يمكن للسلطة العامة ان تغيرها الا بموافقة المستلزم أو المتعاقد أو الممنوحة له”، أي أنه حتى مجرد الموافقة المبدئية على اللزمة لا يمكن لحكومة الاستقلال التراجع عنها أو تغييرها.
إذن فالحكومة التونسية غير قادرة على إلغاء اتفاقية لزمة الملح المبرمة في أكتوبر 1949، إذ أقرّت حكومة يوسف الشاهد في فيفري سنة 2017 بإلغاء إتفاقية لزمة الملح لكن عند انتهاء أمد العقد أي سنة 2029 بعد التمديد الضمني الحاصل بموجب الاتفاقية ذاتها والتي لم تعترض عليها الحكومة التونسية رغم ثبوت التهرب الضريبي.
الفسفاط
احتلت تونس المرتبة الخامسة في إنتاج الفسفاط عالميا حتى عام 2011، ومع ذلك فإنها تعاني اليوم خسارة وعجز في توفير فرص عمل للشباب العاطل بولاية قفصة، وقد اندلعت احتجاجات في عام 2008 فيما عرف حينها بانتفاضة الحوض المنجمي، وتلخصت مطالب الشباب حينها في توفير فرص عمل في مناجم الفوسفاط.
تشكل مادة الفسفاط جوهر الإنتاج الفلاحي العالي التقنية، فمن خلال المغذيات التي يحتويها الفسفاط من نتروجين وبوتاسيوم، يتَعزز نمو المحاصيل الزراعية إلى درجة قصوى، كما تدخل بعض المواد المستخرجة من معدن هذه الثروة المنجمية، كالفوسفور، في الصناعات الغذائية والتجميلية، الشيء الذي يجعلها مادة مطلوبة عالميًا.
وتصدر تونس أكثر من 8 ملايين طن من الفسفاط سنويا وهو مادة أولية لإستخراج “اليورانيوم”.
بعدما كانت تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج الفوسفاط، أصبحت اليوم غير مُصنفة بسبب تعطل الإنتاجنتيجة الإضرابات المتصاعدة, وبات مصير شركة فوسفاط قفصة مهددا بالإفلاس، مسببا انخفاض النمو في البلاد.
كانت تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج الفسفاط، أصبحت اليوم غير مُصنفة بسبب تعطل الإنتاج
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وقبل الثورة وتحديدا عام 2010 حلّت تونس في المركز الثاني بعد المغرب، وفق تقرير الاتحاد العربي للأسمدة, تليها الأردن وسوريا ومصر والجزائر، لكن اليوم بات مستوى إنتاجها في الحضيض جراء تنامي الاحتجاجات
كانت تونس تصنف كرابع منتج للفسفاط في العالم، لكنها تخلت عن هذا المركز وخسرت الكثير من الأسواق الخارجية وتراجع إنتاجها عام 2016 إلى 2.6 مليون طن، بخسائر تجاوزت ملياري دولار، قبل أن يرتفع الانتاج إلى 5ر4 ملايين طن عام 2017 ثم يهوى مجددا إلى مستوى 3 مليون طن عام 2018.
تتكون منطقة الحوض المنجمي المنتج الرئيسي لهذه الثروة في ولاية قفصة، من 4 مراكز إنتاج أساسية، هي المتلوي والرديف وأم العرايس والمظيلة، فيما يعد مركز المتلوي الأهم بسبب استحواذه على 75 بالمئة من الإنتاج.
على الرغم من ذلك، لم يكن التراجع الحاد في إنتاج الفسفاط هو العلة الوحيدة التي أنهكت شركة فسفاط قفصة التي كانت تملأ خزينة الدولة بمليارات الدولارات قبل أن تصبح شركة عاجزة. فالحوكمة السيئة أيضا أحد الأمراض التي أصابت قطاع الفسفاط المشغل لنحو 30 ألف موظف.
ثمة شبهات فساد تتعلق بنقل الفوسفاط وعمليات الشراء والانتدابات العشوائية والمناظرات، وتصل إلى شراء بعض قطع الغيار غير الصالحة
وفي شهر أكتوبر من سنة 2019، تم حبس كاتب الدولة للطاقة هاشم الحميدي بعد نحو شهر من إقالته من قبل رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد بسبب شبهات فساد ورشوة.
وقالت تقارير إن هناك شبهات حول طلبه رشوة من رجل أعمال عراقي مقابل تمكينه من الحصول على الفوسفاط والأسمدة بأسعار زهيدة. لكن الحميدي قال لـ”رويترز” قبل سجنه إن هذه “ادعاءات كيدية، ولي ثقة في القضاء”.

“وينو” البترول
شهدت تونس سنة 2014 حملة شعبية تحت شعار “وينو البترول”، أعلن فيها أصحاب الحملة عن تشكيكهم في الأرقام التي قدمتها الحكومة حول إنتاج البترول، مؤكدين وجود نهب لبترول تونس، مطالبين الحكومة بنشر العقود التي تربط تونس بالشركات الدولية التي تستغل آبار النفط التونسية.

ورغم إعلان وزير الطاقة والمناجم منجي مرزوق، آنذاك، نشر الوثائق التعاقدية لكافة السندات سارية المفعول في مجال المحروقات (العقود البترولية) وعددها 82 عقدًا موزعة على 29 رخصة و53 امتياز استغلال، فإن العديد من التونسيين مازالوا يشككون في الأرقام التي تقدمها الدولة في هذا المجال، ويؤكدون تواطؤ الدولة مع الشركات العاملة في هذا المجال.
ويقدر حجم إنتاج المحروقات في تونس، حسب الإدارة العامة للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، 47 ألف برميل نفط في اليوم و6.7 مليون متر مكعب من الغاز.
ويبلغ احتياطي تونس من النفط حوالي 450 مليون برميل، وهذا المخزون يمكن استغلالها على مدى 16 عامًا بمعدل 27 مليون برميل سنويًا، أي ما يعادل 65 ألف برميل يوميًا. من جهة أخرى بلغ الإنتاج الجملي للنفط في تونس حوالي 16.2 مليون برميل سنة 2019، كما بلغ الإنتاج الجملي للغاز 2100 مليون متر مكعب في نفس السنة. ويبلغ الإنتاج الجملي للغاز المسال في تونس 400 ألف متر مكعب سنة 2019، مع إنتاج 7000 برميل في اليوم من النفط الخام، و2.7 مليون متر مكعب في اليوم من الغاز الطبيعي. وتم منح حوالي 30 رخصة استكشاف واستغلال لسنة 2019. وتم حفر 7 آبار تطويرية وذلك إلى موفى سنة 2019. وينتج حقل “نوّارة” لإستخراج الغاز الطبيعي: 2.7 مليون متر مكعب من الغاز أي ما يعادل نصف الإنتاج الوطني و17% من الاستهلاك الوطني من الغاز، فضلًا عن إنتاج سبعة آلاف برميل من النفط المكثف. وتنفق تونس على دعم المحروقات نحو 1.9 مليار دينار (675 مليون دولار) كما يبلغ احتياطي تونس من الغاز الصخري بـ 1708 مليار متر مكعب، إلا أن استخراج الغاز الصخري جوبه برفض من التونسيين وخاصة من مكونات المجتمع المدني نظرا للتأثيرات الكبيرة على البيئة ونسبة التلوث العالية.

نهب الثروات الوطنية بما فيها البترول تطور باشكال مختلفة ودخل على خط السنوات الاخيرة رجال المال والفساد ممن انخرطوا في المنظومة الدولية الاستعمارية المهيمنة على مقدرات الشعوب. وهو ما زاد في اثارة الحساسية وخلق رأي عام تتصاعد نقمته بحدة. لكن المشكل اليوم في شكل تأطيره وفي بوصلته وفي مواجهة المطبات والفخاخ التقليدية التي تجهض الامر شأن القضايا السابقة.

اليوم هناك تقارير رسمية تدعم وجود الفساد والتفريط في الثروات الوطنية. دائرة المحاسبات وهيئة الرقابة الادارية والمالية اصدرت تقارير دقيقة وجردت عديد الجرائم المرتكبة وهي عناصر اليوم تزيد من شرعية المطالب في الصدد.
القضية كما قضايا التهرب والغش الضريبي وانشاء ضريبة على الثروات ومقاومة الفساد فعلا معقدة ورهاناتها عالية، ولا يمكن الحقيقة مقاربتها بطرق تقليدية بدائية في مقابل خصوم شرسين يمتلكون ادوات السلطة والمال والاعلام والقضاء.
المحور الثالث: الصمت المريب للدولة التونسية
“تفكيك اللغز” هكذا وصفت مجلة “أفريكان منجر” قرار وزارة الطاقة بتقديم معطيات دقيقة عن قطاع المحروقات في خبر منشور بتاريخ 9 ماي 2017، الذي قالت فيه إنه كان ردا على الحديث المتكرر واللغز المبهم الذي يحوم حول حقيقة الثروات الطبيعية للبلاد ونوعية العقود المبرمة مع الشركات العاملة في المجال، فضلا عن مدى استفادة الدولة من الضرائب المفروضة على هذه الشركات.
تقارير دائرة المحاسبات وخاصة تقرير سنة 2012 الذي تولى التدقيق في 7 رخص من سنة 2005 الى سنة 2010 وأفاد أن ما يقارب 142 مليون دولار غير مستخلصة من الشركات الأجنبية العاملة في القطاع النفطي إضافة إلى عديد الخروقات الخطيرة المتعلقة بعملية المراقبة وضبط كميات الانتاج.
ونشير إلى أن عديد الأطراف طالبت بمراجعة اتفاقيات وعقود استغلال الموارد الطبيعية في بلادنا من بينها الأستاذة فوزية باشا أستاذة القانون المختصة في العقود النفطية التي ردت على تبريرات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة برفضها عملية المراجعة خوفا من خروج هذه الشركات من تونس، ردت بأنه لا مكان في تونس لشركات تضع نفسها فوق القانون.
ورأت باشا أنّ الإشكالية في قطاع الطاقة هو إنه تم إنشاء الشركة التونسية للأنشطة البترولية سنة 1972 أي بعد أكثر من 15 سنة من تاريخ الاستقلال، إذن من هي الجهة التي كانت تدير هذا القطاع قبل الشركة؟
الإشكالية في قطاع الطاقة هو أنه تم إنشاء الشركة التونسية للأنشطة البترولية سنة 1972 أي بعد أكثر من 15 سنة من تاريخ الاستقلال
الأستاذة فوزية باشا عمدوني

كان هذا القطاع خاضعا لوزارة التخطيط والمالية، آنذاك، وعندما تم إنشاء الشركة التونسية للأنشطة البترولية وقع تكليفها بالمساهمة في كلفة العقود النفطية وكذلك مراقبتها. فكانت النتيجة أنها كانت الخصم والحكم. إذ أوكل إليها الدخول في جميع العقود وأن تراقب نفسها وتراقب عقود الشركة وهو ما لا يستقيم. لأنه اذا كان هناك فساد أو سوء تصرف فإنه سيكون بين الشركاء (الشركة الأجنية والشركة التونسية للأنشطة البترولية(.
إذن ليس لدينا في المنظومة القانونية التونسية، منظومة رقابية مستقلة عن الجهة التي تستغل، بما جعل أن هناك اختلاط في من يستغل ومن يراقب، والشركة التونسية للأنشطة البترولية تم إحداثها لتكون قاطرة الاقتصاد الوطني لكن مع الأسف أصبحت علبة سوداء تتستر على جميع التجاوزات بل تبارك جميع التجاوزات التي تحدث في الشركات النفطية، وحتى منظومة التأجير تخلت الشركة عن هذا الدور ومنحته إلى الشركات الأجنبية ومنحت امتيازا لموظفيها فبعد اسداء بعض الخدمات يتم إلحاق الأجير بالشركات الأجنية كممثلين لها بأجور عالية والمقابل هو التكتم، وفق محدثتنا.
ليس لدينا في المنظومة القانونية التونسية، منظومة رقابية مستقلة عن الجهة التي تستغل، بما جعل أن هناك خلط بين من يستغل ومن يراقب
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وطالبت باشا، في هذا الصدد بإرساء هياكل رقابية منفصلة عن وزارة الصناعة ومنفصلة عن الشركة التونسية للأنشطة البترولية التي هي الخصم والحكم، ولا تكون خاضعة وتكون مستقلة عن السلطة التنفيذية وفي علاقة مباشرة مع مجلس نواب الشعب وبقية هياكل الدولة ويكون لها استقلال وغير خاضعة لاي تهديد من التهديدات من طر سواء السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية، أو أي سلطة.
وبموجب البحث في عقود النفط المبرمة بين تونس والشركات الأجنبية ورغم المخالفات والخروقات التي ارتكبتها هذه الشركات في حق الدولة التونسية والشعب التونسي إلا أنها تتمتع بحصانة فوق الدولة، ووزارة الصناعة تحديدا شريكة في التجاوزات من ناحية، وتغطي على جميع التجاوزات التي أقرتها دائرة المحاسبات من ناحية أخرى. وتساءلنا لماذا لا يتم سحب هذه الرخص وإلغاء العقود أو تسليط العقوبات على الشركات المخالفة.
كما أنه لا يمنح التنقيب عن النفط واستغلال المناجم إلى أي مستثمر مهما كان إلا بموافقة الحكومة الفرنسية وأن الدولة التونسية لا تكون شريكا أصليا في هذه المشاريع باعتبارها مالكة الثروة، بل يمكنها فقط المساهمة في رأس مال هذه المشاريع.

وفي هذا السياق، يمكن الاستشهاد بمثال منجم جبل الفجاج بالشمال الغربي الذي كان تحت تصرف شركة فرنسية قبل الاستقلال وتواصل استغلالها لهذا المنجم على أنه منتج للزنك الى حدود سنة 1976 وعندما أصبحت الدولة التونسية مساهمة بأكثر من 50 بالمائة من رأس المال في عهد حكومة الهادي نويرة، اكتشفت ان الشركة تنتج وتصدر الفضة وليس الزنك. وعندما تم التفطن إلى حقيقة المنتج غادرت الشركة تونس مخلفة وراءها الخراب حيث دمرت الطاقة الانتاجية.
يتأكد هذا الاتجاه في انعدام السيادة الوطنية على المجال الاقتصادي بالمادة 33 والمادة 34 من اتفاقية الاستقلال الذاتي المؤرخ في 3 جوان 1955 حيث تقتضي المادة 33 “تلتزم الحكومة التونسية بأن تفضل، عند تساوي الشروط، المشاريع الفرنسية أو التونسية، أو المشاريع المؤسسة لهذا الغرض باتفاق الحكومتين، للتحصيل على رخص التفتيش والاستثمار، وعلى اللزم، وتحتفظ الحكومة التونسية بحقها في المساهمة في رأس مال هذه المشاريع”.
يتأكد انعدام السيادة الوطنية على المجال الاقتصادي بالمادة 33 والمادة 34 من اتفاقية الاستقلال الذاتي المؤرخ في 3 جوان 1955
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
وللوقوف على سبب تصرف الدولة وصمتها أمام هذه التجاوزات التي أقرتها دائرة المحاسبات والهيئات الرقابية الثلاث هيئة الرقابة العامة لرئاسة الحكومة، هيئة الرقابة بوزارة أملاك الدولة وهيئة الرقابة بوزارة المالية، بحثنا في تاريخ العقود ذاتها ومتى أبرمت وخاصة ما الذي تغير ما قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال.
المحور الرابع: ملف الثروات الغامض والسري للغاية

وقالت الأستاذة فوزية باشا إنّه كانت لتونس فرصة ذهبية بعد الثورة للانضمام إلى منظمة الشفافية العالمية في الصناعات الاستخراجية، نظرا إلى أنّ هذا الانضمام يخول للدولة التونسية تطبيق معايير الشفافية بمساندة أممية وبمساندة من المنظمات الدولية التي على رأسها منظمة الشفافية التابعة للأمم المتحدة، وتم فعلا سنة 2012 إستضافة ممثلة عن هاته المنظمة وطالب المجتمع المدني آنذاك أن تنظم تونس إليها. غير أنّ هناك قوى خفية أسميها قوى “الاستعمار العميق” لا يروق لها أن تنظم تونس إلى هاته المنظمة.
وأوضحت باشا أنّ الانضمام إلى هذه المنظمة يجعل الدولة التونسية تنشر كميات الانتاج، والتكاليف الفعلية، وتمنح عقود النفط في إطار الشفافية الكاملة للشركات الجدية والتي لها قدرة مالية وفنية وتمنح الشروط الأفضل للدولة التونسية، فهناك رخص في تونس يتم منحها عن طريق المحاباة وعن طريق صفقات تحت الطاولة، كما أصبحت العقود النفطية في تونس هي مصدر أساسي لتبييض الأموال وذلك بمنح العقود النفطية ومنح رخص البحث لشركات في بعض الأحيان وهمية.

وأكّدت باشا أنّه من ضمن 73 شركة لا يتجاوز عدد الشركات الجدية منها 10 شركات على أقصى تقدير، والبقية دخلت إلى تونس في إطار صفقات فساد ومحاباة وتبييض أموال، ذلك أنها تتحصل على رخص التنقيب ويتمّ تمديدها وتجديدها إلى ما لا نهاية، وفي الأخير يتم التفويت فيها إلى الشركات الأخرى وبمبالغ أكبر ودون أن يتم إنجاز الأشغال المتفق عليها، ونفاجأ أنّها في طور البحث، على غرار رخصة “الشعال” فهي منذ 27 سنة في طور البحث إلى الآن.
“إذن تونس لم تحترم معايير الشفافية الدولية، والمرة الوحيدة التي حاولت أن تنظم لهيئة دولية في هذا الشأن، تمّ منعها بإرادة سياسية ومن ورائها الدولة العميقة، والإجراء الوحيد هو أنّه تمّ نشر العقود في عهد وزير الطاقة منجي مرزوق، وبعد تنحيه عن الحكومة كانت هناك محاولة لنسف منطومة العقود المنشورة على موقع الشركة التونسية للأنشطة البترولية وتفطن إلى ذك المجتمع المدني ووجه آنذاك تنابيه وإنذارات للشركة التونسية للأنشطة البترولية لإرجاع العقود فتمّ إرجاعها، وكانت التعلة أنّ هناك عطب في موقع الشركة، وكانت هناك محاولات متكررة لمنع نشر هاته العقود، لأنه عند نشر هذه العقود ومدتها وكيف تمّ إبرامها، وأنها سارية المفعول منذ 60 سنة و حين يطلع عليها الشعب التونسي نعرف ما معنى السيادة الوطنية على الثروات الوطنية”، وفق تأكيد فوزية باشا.
تونس لم تحترم معايير الشفافية الدولية، والمرة الوحيدة التي حاولت فيها التنظم، تمّ منعها بإرادة سياسية ومن ورائها الدولة العميقة
الأستاذة فوزية باشا عمدوني
المحور الخامس: الحلول الممكنة لإسترجاع السيادة الوطنية على ثرواتنا

رأت الأساتذة فوزية باشا المحامية المختصة في العقود النفطية، أنّه من الضروري، كما أسلفنا، تأسيس هيئة رقابية مستقلة للاهتمام بمسألة الطاقة، كما يكمن الحل في مواجهة الفساد في المجال الطاقي في انضمام تونس إلى منظمة الشفافية الدولية للصناعات الاستخراجية، وإعادة تفعيل انخراط تونس في منظمة الدول العربية المصدرة للنفط لأن تونس لم تلغ عضويتها في هذه الاتفاقية بل هي معلقة منذ سنة 1986.
ورأت باشا أنّ هاتين المنظمتين تحميان حق الشعب التونسي والدولة التونسية، أولا في مراجعة عقودها وإقرار قوانين طبق المعايير الدولية تلتزم بها الدولة التونسية شيئا فشيئا إلى أن يتم تصنيفها ضمن الدول المحترمة لهذه المعايير.
أما على المستوى الوطني فإنّ الشركة التونسية للأنشطة البترولية بتركيبتها الحالية ونظامها القانوني وبنظام التصرف في العقود لا يمكن الحد من هذا الفساد، بل العكس، فإنّه من أكبر مظاهر الفساد في قطاع النفط هو نسف وزارة الطاقة، و”إنّ المسرحية التي من أجلها نسف هذه الوزارة كانت سيئة الإخراج باعتبار أنّ الهدف لم يكن نبيلا ولم يكن مكافحة الفساد بل كان لإخفاء حجم الثروات وحجم التجاوزات، فأصبحت الطاقة إدارة عامة ضمن وزارة الصناعة ولم تتم عملية الحرب على الفساد في هذا القطاع المهم.
الشركة التونسية للأنشطة البترولية بتركيبتها الحالية ونظامها القانوني وبنظام التصرف في العقود لا يمكن الحد من الفساد
الأستاذة فوزية باشا عمدوني