غير المربي إن وجد مَن لا يستجيب له يدعه وشأنه ، لكن المربي لا بد بسبب رحمته التي في قلبه من معالجة هذا الذي يربيه .
إذاً : إلهنا وربنا رب العالمين ، يربينا جميعاً ، فإذا كذبنا أنبياءه ، لم نستجب لهم ، لم نطبق ، تلبسنا بالمعاصي ، أكلنا المال الحرام ، اعتدينا على أعراض بعضنا بعضاً ، إذا غفلنا عن ربنا ، ولم نؤدِّ واجب العبودية له ، ضحينا بآخرتنا ، سرنا في طريق الهاوية ، لا يعقل ولا يقبل من رب كريم رحيم أن يدعنا وشأننا ، هذا كلام دقيق .
أقرب جهة إلى العبد ربه ، هو الذي خلقه ، هو الذي يربيه ، لا تعجبوا إذا شرد الواحد من الناس عن الله أن يدعه الله وشروده ، لا تصدقوا إذا خرج العبد عن منهج الله أن يدَعه الله وخروجه ، لا ، لا بد من معالجة .
الله سبحانه وتعالى من رحمته يبدأ مع عبده بما يسمى بمرحلة سلمية ، هي الهدى البياني ، يسمعك خطبة ، يسمعك درسا ، تقرأ كتابا ، تسمع ندوة ، تسمع محاضرة ، توضح هذه المحاضرة سر وجودك ، وغاية وجودك ، فأنت إن استجبت فهذا أسلم طريق ، أكمل طريق ، وأكثرهم راحة .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
( سورة الأنفال الآية : 24 )
حينما تؤمن أن الأشياء التي حرمها الله عليك ما حرمها عليك تضيقاً عليك ، ولا حداً لحريتك ، ولكنها ضمان لسلامتك ، تماماً لو رأيت لوحة كتب عليها : حقل ألغام ، ممنوع التجاوز ، أنت لا تحقد على واضع هذه اللوحة ، بالعكس يمتلئ قلبك امتناناً منه ، لأنه حرص على سلامتك فنبهك ، ففي اللحظة التي تعتقد أن المحرمات ، وأن الأشياء التي نهى الله عنها ، لم ينهَ عنها تقييداً لحريتك ، ولا لجعل حياتك متعبة ، ولكنه نهاك عنها ضماناً لسلامتك ، ها هو الفقه ، أن ترى هذه الأوامر لصالحك .
الله عز وجل أرحم بنا من أنفسنا ، خلقنا ليسعدنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، فإذا لم نستجب ، لم ننصع له ، لم نخضع ، لم نفكر ، لم ننضبط ، لم نلتزم ، أيقبل من رب رحيم أن يدع هذا العبد وشأنه ؟
أضرب لكم مثلا أرجو أن يكون واضحاً : هناك ابن في الصف الخامس قال لأبيه مرة : لا أحب الدراسة ، قال له : دعها ، في اليوم الثاني لم يذهب إلى المدرسة ، فلا دوام ، ولا استيقاظ باكراً ، ولا وظائف ، ولا أستاذ ، ولا ضرب إذا ما كتب الوظيفة ، بل نام إلى لظهر ، ما هذه الحياة ، إنها مريحة جداً ! خرج من البيت ، عاشر رفقاء السوء ، تصور أنه في سعادة كبيرة جداً ، فلا أعباء ، ولا مسؤولية ، ولا عقاب ، ولا محاسبة ، ولا وظائف ، ولا استيقاظ باكرا ، لما كبر وجد نفسه بلا وظيفة ، ولا تجارة ، ولا طب ، ولا هندسة ، ولا زوجة ، ولا بيت ، فهو إنسان شارد ضائع ، فحقد على أبيه ، جاءه ، وقال له : يا أبتِ ، يوم سألتك : لا أحب الدراسة لمَ لم تضربني ضرباً مبرحاً ؟ لمَ سمحت لي أن أدع الدراسة ؟
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا ﴾
يوم القيامة
﴿ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة القصص )
المصائب رسائل عملية ربانية مفهومة المقصد :
دققوا في كلمة :
﴿ لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ﴾
سمّى الله المصيبة التي ساقها الله لعباده التائهين سماها رسولا من الله ، رسالة عملية ، ففي اللحظة التي تفهم بها أن المصائب رسائل من الله ، تجمع مالاً حراماً ، هذا المال يدمر ، فتدمير المال رسالة من الله أن يا عبدي تُب ، لقد أخطأت .
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ﴾
( سورة القصص )
أحببت امرأة لشكلها ، ولجمالها ، ولم تعبأ بدينها الرقيق ، فأذاقك الله بهذا الزواج ألوان الشقاء ، ألوان الشقاء التي أذاقك الله من خلال هذا الزواج رسالة من الله ، وفي اللحظة التي تفهم أن معاملة الله لك رسائل عندئذٍ أنت فقيه .
إذاً : لا تنتظر من الرحيم أنك إذا سرت في طريق الهاوية أن يدعك وشأنك ، قال تعالى :
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 147 )
ماذا تقتضي رحمته الواسعة ؟
﴿ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
حينما تفقه حقيقة كمال الله عز وجل تشعر أن الله حينما يضيق على الإنسان فمن أجل أن يرده إليه ، والله عزوجل ثبّت ملايين القوانين ، الكون ثابت ، دورة الأفلاك ، خصائص المواد ، قوانين الفيزياء ، الكيمياء ، قوانين الفلك ، الحركة ، لكنه حرك الرزق والصحة ، هما بيد الله ، وهناك أمراض لا حل لها حتى الآن ، الورم الخبيث شيء مخيف ، الفشل الكلوي شيء مخيف ، تشمع الكبد ، خثرة في الدماغ ، كلها أمراض وبيلة ، الله سبحانه وتعالى إن رأى عباده شردوا عنه ، وساروا في طريق الشهوة ، بل ساروا في طريق الهاوية ، وساروا في طريق ينتهي بهم إلى النار ، أيعقل ويقبل من رب العزة ، من الرحمن الرحيم أن يدعنا وشأننا ؟ أبداً ، هذه الآية :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ﴾
أرسلنا نبياً إلى قرية فكذبته ، لم تستجب له ، لم تعبأ برسالته .
﴿ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾
الأمراض ، والهموم ، والمتاعب ، والقهر ، والفقر ، والمرض ، لماذا يا رب ؟ كلام خالق السماوات والأرض قال :
﴿ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾
من أجل أن تسجد في الليل ، وتقول : يا رب ، لقد تبت إليك ، سامحني ، يا رب ، ليس لي إلا أنت ، يا رب ، أستغفرك من ذنب وقعت فيه ، من أجل أن نتضرع .
صدقوا أيها الإخوة ، والله الذي لا إله إلا هو لو تضرعنا إلى الله كما ينبغي لأزيحت عنا كل المصائب ، لماذا ؟ لأن الله عز وجل يقول :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
( سورة النساء )
ببساطة إذا كان الطفل أولا في صفه ، مهذبا ، أخلاقه عالية ، نظيفا ، أنيقا ، مهما كان الأب سيئاً أيعقل أن يضربه ؟ لمَ تضربني يا أبتِ ؟ ماذا فعلت حتى تضربني ؟ الأب لا يفعلها ، دقق :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾