شكّلت فترة الثمانينيّات من القرن المنصرم مرحلة بالغة الدقّة من تاريخ تونس المعاصر ، حيث اتّسمت السنوات الأخيرة من العهد البورقيبي بالتوتّر السياسي والتأزّم الاقتصادي في ظلّ رئيس هرم بات “يسود ولا يحكم”، وهو مُناخ شاذ غذّى نوازع التغيير لدى المعارضة والنخب الأمنية والعسكريّة بما يلبّي رغبة شعبيّة جامحة أماط عنها اللثام ذلك الاحتفاء العام بانقلاب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي يوم 07 نوفمبر 1987 الذي استجاب لمزاج عام متعطّش إلى قدْر من الاستقرار الاجتماعي ..
مرِض الهادي نويرة ليخلفَه على رأس الوزارة الأولى وزير التربية محمد مزالي في أفريل 1980 وذلك بإيعاز من وسيلة بورقيبة حرم الرئيس، في وقت تشهد فيه العلاقات التونسية الليبية توتّرا غير مسبوق ألقى بظلاله القاتمة على الداخل (أحداث قفصة نموذجا)، ورغم ذلك أبدى الوزير الأول الجديد رغبة واضحة في الدفع نحو انفتاح ما وهو ما أثمر إجراء انتخابات برلمانية تعدّديّة عام 1981، إلّا أنّ التزوير الذي شابها خيّب ظنّ النخب السياسيّة المعارضة وجعلها تقيم الحداد على آمالها في حصول تغيير حقيقي على الأقلّ في الأفق المنظور، كما شهدت السنة نفسها صدور المنشور 108 المثير للجدل الذي يمنع الحجاب بحجّة حظر “اللباس الطائفي”، ولم يكتف بورقيبة بذلك بل أعطى أوامره بملاحقة المصلّين الشباب والتضييق عليهم ..
كما رفضت السلطات منح الترخيص لحركة الاتّجاه الإسلامي التي أعلن عن تأسيسها خلال مؤتمر جوان 1981 على أنقاض “الجماعة الإسلاميّة”قبل أن يعمد النظام إلى اعتقال عدد من القيادات من بينها زعيمها راشد الغنوشي الذي صدر بحقّه حكم بالسجن 10 سنوات بتهمة الانتماء إلى جمعية غير قانونيّة، في المقابل حظيَ الحزب الشيوعي التونسي برخصة تقنّن أنشطته الحزبيّة بشكل نسبي..
بدايةً من عام 1982 أخذت نُذُر الانسداد الاقتصادي في البروز عندما شهدت أسعار الفسفاط انخفاضا ملحوظا،ليُفاقم هذا الوضع المتردّي الظروف الاجتماعيّة الصعبة للشعب التونسي ليأتيَ قرار رفع الدعم عن العجين ابتداء من غرة جانفي 1984 مُنذرا بانفلات أمني غير مسبوق حيث وجدت هذه الخطوة المتسرّعة ردّ فعل عنيف من مختلف شرائح المجتمع الذي عبّر عن سخطه بمظاهرات قويّة انطلقت من ولاية قبلّي لتعمّ بعد ذلك معظم مناطق البلاد بما فيها العاصمة في خروج شعبي مهيب اختلفت التوصيفات في شأنه لتتقلّب التسميات بين”أحداث الخبز”و”ثورة الخبز”و”انتفاضة الخبز”…فيما اعتبرها مزالي مؤامرة حيكت ضدّه من أطراف داخل السلطة شارك فيها وزير الداخلية إدريس قيقة الذي تمّ إعفاؤه من مهامّه،ويعكس هذا التشكيك في ما يعكس ذلك التجاذب المريب بين خصوم القصر الذي بدأ يطبع السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة الآيل للسقوط وتُعتبر “أحداث الخبز” التي خلّفت 143 قتيل و400 جريح أبلغ تعبير عن اهتراء نظام بدا جليًّا أنّ السبيل الوحيد لإصلاحه هو إسقاطه..
اقترن عام 1985 بعدد من المستجدّات الساخنة التي راكمت المزيد من الصعوبات أمام حكومة المزالي، فقد تلاحقت الإضرابات والاحتجاجات النقابيّة قبل أن يعمدا لقذّافي إلى طرد أكثر من 30 ألف تونسي من ليبيا في امتداد لتداعيات الأزمة التي خلقها فشل تجربة الوحدة عام 1974 ووصلت إلى ذروتها بقطْع العلاقات رسميا يوم 26 سبتمبر 1985 ما منح الظرف الاجتماعيّ العصيب أبعادا جديدة كما لا تفوتنا في هذا السياق الإشارة إلى الاعتداء الصهيوني الغاشم على حمّام الشط في حادثة مأساويّة كرّست حالة الاحتقان العام.
شهد عام 1986 انعقاد المؤتمر 12 للحزب الاشتراكيّ الدستوري الذي أعرب فيه بورقيبة عن ثقته الكاملة بوزيره الأوّل محمد مزالي وذلك قبل التخلّي عن خدماته بعد بضعة أيام، وهو ما نلمس معه تذبذبا واضحا خلقه صراع الأجنحة على مقربة من رئيس بلغ من العمر عتيًّا طفق يُقيل أعضاده بالجملة في حملة تغيير واسعة انطلقت منذ عام 1984 بإقالة قيقة.
مع حلول شهر أفريل 1986 تقلّد زين العابدين بن علي منصب وزير الداخلية ليجد الطريق أمامه سالكة بعد ابتعاد زوجة الرئيس (وسيلة بن عمار)وابنه(الحبيب بورقيبة الابن) عن المشهد السياسي وخلوّ الجو لابنة أخته سعيدة ساسي[1] التي كانت سندا لبن علي وسببا في توليته وزيرا أوّل بداية من أكتوبر 1987 خلَفا لرشيد صفر الذي خُفّضت في عهده قيمة الدينار، وقد سبقت هذه التطوّرات السياسيّة بعضُ الأحداث المفصليّة كاستهداف الفنادق بمحاولات تفجير دفع ثمنَها الإسلاميون وعلى راسهم أبناء “الاتجاه الإسلامي”الذين واجهوا حملة اعتقالات جديدة نال الغنوشي في أعقابها حكما بالسجن المؤبّد بعد إطلاق سراحه عام 1984 بعد إدانته بجملة من التهم الخطيرة من بينها التواطؤ مع طرف أجنبي (المخابرات الإيرانية) وتهديد أمن الدولة، ولم يكتف نظام بورقيبة بذلك بل عمد إلى تفعيل أحكام بالإعدام حيث أعدم عنصريْن إسلامييْن (من غير المنتمين لحركة الاتجاه الإسلامي) أُدينا بالهجوم على مكتب بريد ومركز أمن، لتزداد الأجواء تعفّنا، حتى إنّ أربعة أحزاب معارضة من بينها الحزب الشيوعي وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين أصدرت بيانا مشتركا استنكرت فيه السياسة القمعية المنتهجة من قبَل السلطة وداعية إلى ً”لوقوف بحزْم ضدّ هذا التدهور الخطير…”.
وفي وثيقة من 50 صفحة أرسلها المرحوم المنصف بن سالم يوم 26 مارس 2003إلى الدكتور أحمد المناعي رئيس “المعهد التونسي للعلاقات الدوليّة” يروي القيادي بحركةالنهضة كيف عرض بورقيبة على وزير الدولة المكلّف بالتربية محمّد الصيّاح منصب وزير أول بدلا من بن علي بشرط “…قطْع رأس 30 رأسا من الإسلاميين”فما كان من العضو البارز في الديوان السياسي للحزب الحاكم إلاّ أنْ طلب تأجيل التعيين إلى يوم 09 نوفمبر 1987 وذلك بهدف اغتيال بن علي في “عيد الشجرة” الموافق ليوم 07 نوفمبر 1987 ليتمّ إلصاق تهمة التصفية بالإسلاميين لتتهيّأ بذلك فرصة محاكمتهم من جديد والتخلّص منهم أذرعه القضائيّة المتواطئة، وقدأكّد بن سالم أنّ المعلومات التي ساقها بلَغته من عناصر “موالية”تمكّنت من اختراق الجهاز الأمني[2].
يُثبت محضر جلسة لاجتماع أمني التأم في قاعة العمليات بوزارة الداخلية يوم 28 سبتمبر 1987 درجةَ الاستنفار الأمني التي وسمت تلك الفترة من عهد وزير الداخلية زين العابدين بن علي، حيث اتّسم الوضع العام بتوتّر كبير أعقب أحداث أوت النوعيّة ما أجبر القيادة الأمنية على توظيف احتياطات أمنيّة إضافيّة وإعادة توزيع الوحدات من أجل قمع كلّ حراك احتجاجيّ قد يحاول استغلال الظرف الخاص الذي يمرّ به النظام، وقد حضر الاجتماع الأمني الذي أشرف عليه المدير العام بوزارة الداخليّة محمّد كربول كلّ من:
الشادلي النفاتي المدير العام لإدارة الشؤون الجهويّة.
محافظ ش.عام علي نور الدين بن حمادي مدير تنسيق المصالح المختصّة.
محافظ ش.عام أحمد شاطر مدير تنسيق مصالح الأمن العمومي.
محسن تقيّة مدير تنسيق المصالح المشتركة.
محافظ ش.عامفرج قدورة مدير إدارة أمن إقليم تونس.
العقيد عبد الفتاح جراية مدير إدارة فرق النظام العام.
العميد المنصف بوعزيز من التفقديّة العامّة لمصالح الأمن الوطنيّ.
محافظ ش. أعلى محمد علي القنزوعي رئيس الإدارة الفرعيّة للاستعلامات العامّة.
– المقدّم عمر البكوش رئيس الإدارة الفرعية لشرطة المرور.
– الرائد عبد الجواد الصيادي مدير إدارة الوحدات الترابيّة.
– الرائد توفيق الدبابي رئيس قاعة العمليات بوزارة الداخلية.
– الرائد عبد الوهاب معلول من قاعة العمليات بوزارة الداخليّة.
– الرائد عبد العزيز بن عثمان من إدارة فرق النظام العام.
– الرائد فتحي الدخلي رئيس قاعة المواصلات بإدارة أمن إقليم تونس.
– لرائد الحبيب بن عبد الله رئيس الإدارة الفرعيّة للأبحاث والتفتيش.
– النقيب فرج اللواتي رئيس قاعة العمليات للحرس الوطني.
وقد انتهى الاجتماع إلى جملة من التوصيَات الّتي تشي بالطبيعة البوليسيّة الشاملة لتعاطي السلطة مع احتجاجات شباب وصفتهم الوثيقة الرسميّة السريّة ب”الخمينيين” ، وذلك في سياق عام موسوم (أو موصوم) باستهداف المعارضين عموما والإسلاميين “الاتّجاهيين”[3] خصوصا، حيث تمّت الدعوة إلى:
– ضبط اللجنة الفنيّة المشتركة من الأمن الداخلي والدفاع الوطني لمناطق عمل ومسارات الدوريات وعدد أعوان الأمن التي سيرافقونها في كل وحدة.
– تولّي مختلف الوحدات الأمنيّة بالعاصمة وبداخل الجمهوريّة طبقا لمراجع التنبيه على أصحاب المحلات المعدّة لبيع وإصلاح العجلات بعدم إبقاء عجلات بالطريق العام سواء كان ذلك للإشهار أو لاستغناء عنها وعدم بيعها إلّا لمن يستظهر ببطاقة تعريف قومية تسجّل بدفتر خاص يُمسكه صاحب المحلّ ويستظهر به لوحدات الأمن عند كل طلب(…)
–التداخل بين الحزب والدولة:
اتّسمت مختلف مراحل الحكم البورقيبي بتداخل لافت بين الحزب والدولة،إذ حرصت الطُّغمة الحاكمة منذ إعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957 على عدم إحداث ذلك التمييز الصارم بين الهياكل الحزبيّة والمؤسسات الوطنيّة حتى إنّ أعضاء “لجان النظام”التي أطلقها الحزب الاشتراكي الدستوري كانوا معيّنين من الشُّعَب ويحملون بطاقات أمنيّة(مسلّمة من مراكز الأمن، كما أنّ “المجموعات” التي تمّ زرعها في الوسط الطلّابي تشُكّلت بمقتضى أمر رئاسي بموافقة الديوان السياسي للحزب ليتمّ تبنّيها من قبَل وزارةالداخلية قبل أن يتلقّى عناصرها تدريبات على يد الجيش مع تسلّم بدلات عسكريّة وهو ما أكّده محمّد الصيّاح في حوار مع الصحفي صالح عطيّة في فيفري 2011، كما تجدر الإشارة إلى أنّ بن علي قُبيْل انقلابه على بورقيبة كان يجمع بين رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية والأمانة العامة للحزب !..
وتكشف وثيقة مصنّفة”سريّ مطلق” صادرة عن الإدارة العامّة للشؤون الجهويّة درجة ذوبان الدولة في الحزب وتسخير مقدّراتها لخدمة جهود “اليقظة”، فقد انعقدت بدار الحزب جلسة عمل أشرف عليها مدير الحزب الاشتراكي الدستوري عبد العزيز بن ضياء وحضرها كل من عباس محسن والي تونس وأحمد رضا واجة والي بن عروس وكمال ساسي والي أريانة وكمال الشريقي مدير ديوان مدير الحزب وقاسم عازق ومحمد الحناشي والمكّي الفيتوري كتّاب عامين لجان التنسيق الحزبي بتونس أريانة وبن عروس ومحمّد التريكي، وقد لوحظ في
“التدابير” التي أمر بها مدير الحزب الحاكم ما يلي:
– منَح ظرفية للجان التنسيق من المال العام.
– تزويد اللجان بالمواد الغذائيّة على حساب “التضامن الاجتماعي”..
– وضع سيارات مع 40 لترا من المحروقات على ذمّة إدارة الحزب.
– خصّ الولاة والكتاب العامين للجان التنسيق صلاحية منح الرخص الثقافية ل”يرونه صالحا”، كما أذن بن ضياء بإعطاء رؤساء الشعب هذه الرخص “عند الضرورة” !..
– الحثّ على إعلام الدوائر الحزبية أو مراكز الأمن أو لجان التنسيق بأي “حركة مريبة”كالكتابة الحائطية أو توزيع مناشير، والدعوة إلى إطلاع الولاة والإدارة المركزية للحزب بكل “التطوّرات”( ليس هناك فرق بين الاتصال بمركز الأمن و الدائرة الحزبية من جهة وبين الولاية وإدارة الحزب الحاكم، فالدولة والحزب واحد !!).
– حثّ الوالي على عقد لقاء دوري مع كلٍّ من كاتب عام لجنة التنسيق ورؤساء المناطق الأمنيّة لضبط التدابير الضروريّة…إلخ.
فضلا عمّا تقدّم فقد ساهم غياب “الديمقراطية” أو “التشاركيّة” داخل السلطة الحاكمة في صبْغ التداخل أو التماهي بين هياكل الحزب ومؤسسات الدولة بالعامل الشخصي والعائلي، فبعد سيطرة بورقيبة على مقاليد الأمور في السنوات الأولى من حكمه أخذت قدرته على الهيمنة في التراجع شيئا فشيئا لصالح زوجته وسيلة بن عمار قبل أن يؤول زمام المبادرة إلى ابنة أخته سعيدة ساسي وبطبيعة الحال لكلّ مرحلة رجالها المدعومون من القصر، فعلى سبيل المثال زكّت وسيلة تعيين المزالي وزيرا أوّل فيما ساهمت سعيدة في إقصائه وتمهيد الطريق لبن علي وهذا بشهادة رئيس حكومة الانقلاب الطبيّ الهادي البكوش، كما سجّل العامل الجهويّ حضورَه في توجيه سياسة التنمويّة في البلاد ومالت مقدّرات الدولة بشكل واضح نحو المناطق الساحلية وبالتحديد المنستير مسقط رأس الرئيس، وليس أدلّ على هذا التعاطي التمييزي الجهوي من أنّ جميع من شغلوا منصب الوزير الأول في عهد بورقيبة كانوا ينحدرون من جهات ساحليّة وهي ملاحظة ثرثارة تكشف الكثير من سمات السياسة البورقيبيّة التي لطالما لخّصها تصريحه الشهير:”السلطة هي أنا “!..
صابر النفزاوي: كاتب سياسي
** هوامش وإحالات :
~~~~~~~~~~~~
[1] – في الجزء 11 من شهادته في برنامج “شاهد على العصر”على قناة “الجزيرة” أكّد رئيس الحكومة الأسبق الهادي البكوش أنّ سعيدة ساسي أصبحت الحاكمة الفعلية لتونس منذ عام 1986، يقول البكوش حرفيا:””سعيدة أطاحت بالكل إلا ببن علي”.
[2] – سبق للهادي البكوش أن أدلى بشهادة في “مؤسسة التميمي” يوم 19 أفريل 2014 قال فيها إنّه في يوم 27 أكتوبر 1987 عمد المسؤول(السابق)بوزارة الداخليّة محمّد شكري إلى إعلام بن علي بأنّ محمّد الصيّاح وزير التربية (آنذاك) ومنصور السخيري وزير التجهيز (وقتها) بصدد التآمر عليه وهما يحاولان إقناع بورقيبة بالتخلّي عنه ل”ضعفه”أمام الإسلاميين، كما أكّد له أنّ هناك نيّة تتّجه إلى تعويضه بالصيّاح..
[3] – أنصار حركة “الاتّجاه الإسلامي”.
– كان يُفترَض بهذا النص أن يكون أحد أقسام كتاب كنـّا نعتزم المشاركة في تأليفه حول «المجموعة الأمنيّة 87» استنادا إلى مصادر حيّة (شهود) ووثائق رسميّة سريّة ،، ننشره تعميما مأمولا للفائدة، فالتّـاريخ نظر وتحقيق كما يقول “ابن خلدون” ..