لا يختلف اثنان في توصيف الوضع الاقتصادي التونسي الذي بات واضحا وجليا للعموم، وضع هشّ وصعب، يدعو إلى التفكير في هدنة اجتماعية يفرضها الواجب الوطني بالتنازل عن المهم من أجل الأهم، التنازل عن بعض حقوقنا الاجتماعية والمالية من أجل الأهم وهو مصلحة هذا البلد.
الــ”سكيزوفرينيا” هي الانفصام في الشخصيّة.. والفصام اضطراب عقلي شديد يفسر فيه الأشخاص الواقع بشكل غير طبيعي. وقد ينتج عن الإصابة بالانفصام في الشخصية مجموعة من الهلوسات والأوهام والاضطراب البالغ في التفكير والسلوك.
وبالرغم من الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيش على وقعه بلادنا، والذي انعكس ضرورة على مؤسساتنا العمومية، خاصة منها التي في علاقة مباشرة بأزمة كورونا، كشفت المديرة العامة للشركة الوطنية للخطوط التونسية ألف الحامدي عن مطلب الاتحاد العام التونسي للشغل عبر أمينه العام نور الدين الطبوبي، بتقديم تسبقة عن معلوم انخراط أعوان المؤسسة و تكلفة هذه التسبقة تُقدّر بمليارات.
من جهة أخرى يجب أن نستوعب جيدا أنّه من السكيزوفرينيا أن تفعل الشيء ونقيضه، وأن تصبح حبيس أوهام لا علاقة لها بالواقع، وهذا ما يميز الفصام عن باقي الأمراض الذهنية والنفسية التي تحيد بالانسان عن ادراكه.
مطلب الاتحاد العام التونسي للشغل بالحصول على مبالغ كبيرة من شركة وطنية يكاد ينتهي أمرها بسبب الاهمال وملفات الفساد، هو مطلب بإنهاء أمر الغزالة واخماد أجنحتها نهائيا، خاصة وأن المنظمة الشغيلة تصر في كل مناسبة على التهديد بإلإضراب العام في كل القطاعات إذا تم فتح ملف التفويت في أيّ من المؤسسات العمومية وعلى رأسها الغزالة.
في الواقع، ارتبطت تهديدات الاتحاد بميزاجية المنظمة وسياساتها، لهذا لم يقبل الاتحاد وجود ألفة الحامدي على رأس الادارة العامة للناقلة التونسية منذ البداية، ولهذا استمرت قيادات المكتب التنفيذي في استفزازها ودفعها نحو الزاوية وطبعا عادت بنا قيادات الاتحاد إلى فزاعة التفويت في المؤسسات العمومية، في حين ارتبط الاتحاد بتعطيل المؤسسات العمومية وتعميق الأزمات وخلق أزمات أخرى والتصعيد زمن الشدة والمطلبية زمن الرخاء، على عكس الشعارات المرفوعة اعلاميا.
الاتحاد وفزاعة التفويت لخدمة مصالحه
من باب الذكر لا الحصر، لعل البعض مازال يذكر التصريح الشهير لنور الدين الطبوبي في سبتمبر 2018، زمن حكومة يوسف الشاهد، “المؤسسات العمومية خط أحمر” وأرفق العنوان بقائمة المؤسّسات التي -قيل- أنّ الحكومة تنوي التّفويت فيها لفائدة الخواص.
في حين أكد حينها الوزير لدى الحكومة المكلف بالإصلاحات الكبرى السابق، توفيق الرّاجحي، أن مشروع الإصلاح وافق عليه الإتحاد ومنظمة الأعراف في إجتماع سابق, قبل أن يتراجع اتحاد الشغل بعد ذلك تزامنا مع توتّر الوضع السياسي بين رئيس الحكومة والسبسي الإبن، حينها، داعيا في ذات السّياق إلى ضرورة أن يتحمّل كل طرف مسؤولياته.
وكشف الرّاجحي أنّ الحكومة لم تُقدّم أيّ وثيقة أو قائمة تهمّ التّفويت في المؤسّسات العموميّة بل تمّ تسليمه وثيقة تقسيم وتصنيف للمؤسسات العمومية (استراتيجي وغير استراتيجي), واعتبر أنّ الحكومة ليس لها أي خطوط حمراء, مشددا على أنّه لا مشكل في معالجة ملف المؤسسات العمومية حالة بحالة, كما نفى أن يكون للحكومة الآن خطة أو قائمة تتعلق بخوصصة المؤسسات العمومية، لكن بالرغم من تكذيب حكومة الشاهد حينها نيتها التفويت في المؤسسات العمومية لم يتوقف الاتحاد عن التهديد والتلويح بالإضراب العام. بينما اعتبر متابعون أن مايلعبه الاتحاد في تلك الفترة لم يكن اجتماعيا، بل كان دورا سياسيا لفائدة خط سياسي معيّن يقتضي ضرب حكومة الشاهد، كما حدث مع أغلب الحكومات، خاصة حكومة الترويكا التي سجلت رقما قياسيا للإضرابات في كل القطاعات برعاية اتحاد الشغل.
اذن الاتحاد العام التونسي للشغل بعد تاريخ من استعمال الفزاعات والتهديدات، لا يمكن أن يقنعنا اليوم، بغيرته المفرطة على الناقلة التونسية خاصة بعد انكشاف أمره ووضوح أسباب مهاجمة ألفة الحامدي التي رفضت تقديم تسبقة قدرت بالمليارات لفائدة الاتحاد، في الظروف الحالية التي تعيش على وقعها شركتنا الوطنية للطيران.
ان الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قرر ذات 2018 أن يلعب دورا في الانتخابات البلدية، ثم في 2019 في الانتخابات التشريعية والرئاسية، لا يمكن أن يقنعنا اليوم بحسه الوطني وانتفاضه ودفعه نحو إقالة ألفة الحامدي من إدارة الناقلة التونسية، بموجب الغيرة على المؤسسات العمومية.
المؤسسات العمومية بدورها أصبحت عبأ ثقيلا على الدولة التونسية، ولن يستمر الأمر طويلا على هذه الحال بالاستدانة من أجل ضخ الأموال لإصلاح مؤسسات أنهكها الفاسدون، إلا أذا قررت الدولة فعلا محاربة الفساد وانقاذ ما تبقى من كرامة مؤسساتنا العمومية المنتهكة.
لكن أن يقنعنا الطبوبي فجأة بسكيزوفرينيا المطالبة بمليارات من الغزالة والدفاع عنها خوفا من أطماع ألفة الحامدي التي تنوي الإطاحة بها، وفق أوهام الطبوبي، فهذا يعني أن الفصام أصابنا انتشر بيننا، وأننا فقدنا قدرتنا على التركيز والتفريق بين الوهم والواقع. وإن أخطر ما في السكيزوفرينيا هو أن المصاب بها لا يعلم فعلا أنّ ما يقوله وما يفعله وما يعتقده وما يخشاه من خطر داهم.. ليس إلا هلوسات.