في مثل هذا اليوم 3 جانفي من العام 1984 بلغت احتجاجات الشعب التونسي أوجها على خلفية الزيادة في سعر الخبز.
وبدأ الغضب الشعبي بتاريخ 29 ديسمبر 1983 في مدينة دوز التابعة لولاية قبلي بمناسبة السوق الأسبوعية ووصلت المظاهرات الشعبية – مع دخول الزيادة حيز التنفيذ في 1 جانفي 1984- إلى مناطق الشمال والوسط الغربي في الكاف والقصرين وتالة وبقية مناطق الجنوب في قفصة وقابس ومدنين ومعتمدية جبنيانة في ولاية صفاقس..
وفي 2 جانفي 1984 بدأ سقوط قتلى و جرحى إضافة إلى خسائر مادية كبيرة مع نهب المغازات وحرق سيارات تابعة للشرطة و للمواطنين.
و لئن أخفيت عن الشعب التونسي آنذاك الأسباب الخقيقية المتعلقة بهذه الأحداث فإن شهود على عصرهم قدموا شهادات حولها ومن بينها:
شهادة الهادي البكوش الذي شغل منصب الوزير الأول بتونس بين 7 نوفمبر 1987 و27 سبتمبر 1989.
أفاد الهادي البكوش في برنامج الإعلامي أحمد منصور “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة أن أحداث الخبز كانت وراءها حسابات سياسية للقضاء على الوزير الأول آنذاك محمد المزالي.
و أوضح البكوش أن وسيلة عمار طليقة الرئيس الحبيب بورقيبة كان لها تعاون طيب مع الوزير الاول محمد المزالي ثم لما جاءت انتخابات برلمانية وقع اختلاف بينهما بسبب اختيار النواب وانقلبت وسيلة عليه وفسدت العلاقة بينهما فقررت إزاحته وكان من بين وسائل الإزاحة افتعال مظاهرات في الشارع و غضب شعبي واستغلاله لإقناع الرئيس بورقيبة ان محمد المزالي لا يصلح ليكون وزيرا أولا.
شهادة محمد المزالي الذي شغل منصب الوزير الاول بين 1980 و1986.
قال محمد المزالي خلال برنامج “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة ” إن أحداث الخبز أنا شخصيا أسميها أو أنعتها بمؤامرة الخبز لا انتفاضة، هي مؤامرة تذكرنا بمؤامرة 26 جانفيه 1978 والبطانة جماعة القصر من بينهم وسيلة وبعض الوزراء وفي مقدمتهم وزير الداخلية إدريس قيقه وغيرهم. خططوا لإثارة الرئيس بورقيبة حول ما اعتبروه تبذيرا للقمح ولمشتقات القمح وخاصة الخبز.
وتابع المزالي حول مؤامرة أحداث الخبز : “في سبتمبر 1983 هاتفني بورقيبة قبل سفره إلى ألمانيا للاستراحة وقال لي شاهدت برنامجا في التلفزيون حول تبذير كثير للخبز وللحد من هذا التبذير يجب مضاعفة سعر الخبز، مضاعفة 100%”.
و أكد المزالي أن وسيلة بورقيبة أمرت مدير الإذاعة والتلفزيون حينذاك المنصف بلمحمود لينظم ريبورتاجا حول بعض المزابل وخاصة بعض الأماكن التي يؤمها الفقراء ومقبرة الجلاز في تونس لتصوير أكداس من الخبز الملقاة في الشارع.
و تابع المزالي: “خاطبني مدير الإذاعة و قال لي إني أعددت برنامجا لترشيد المواطنين حتى يخففوا من تبذير الخبز وأنا صدقت هذا القول طبعا واعتبرت هذا من واجب التلفزة والإذاعة لكن اتضح أن البرنامج كان لإثارة بورقيبة فقط.
وأوضح المزالي: “هناك مسؤول كان ضمن القصر وكان يقرأ لبورقيبة الجرائد وبعد 7 نوفمبر 1987 ألقي عليه القبض و قد صرح في السجن بأنه شاهد بعيني رأسه مؤامرة وسيلة عندما نادت مدير الإذاعة أمام بعض الشهود وقالت له يجب توريط مزالي ويجب إثارة بورقيبة”.
وقال مزالي الشيء الغريب الذي وقع قبل خروج الشعب للشارع رفضا للزيادة في الخبز هو أن أكثر الولاة اتصل بهم وزير الداخلية إدريس قيقة وأرسل منشورا لقوات الأمن حتى يجردهم من السلاح، للتشجيع على أحداث الشغب.
و قال المزالي و لإثارة الناس ضدي أكثر أمرني بورقيبة أمرا بأن أذهب إلى الإذاعة والتلفزيون وأخاطب الشعب وأقول إنه لا رجعة في الأسعار المضاعفة، و فعلت مضظرا مضيفا ” أرسل لي إدريس قيقه وزير الداخلية في حكومتي آمر الحرس عامر غديره حوالي الساعة الخامسة في بيتي وقال لي جئتك مبعوثا رسميا من وزير الداخلية لأقول لك استقل بالكرامة أفضل من أن تطرد بالإهانة”
و قال المزالي: “رحت لبورقيبة و قلت له السيد الرئيس من فضلك من الاحسن أن اذهب و أعتبر نفسي مسؤولا حتى و لو أنت شخصيا قررت الزيادة فقال لي لماذا تقول هذا؟ أنا الذي قررت الزيادة وليس أنت ..وكان ذلك بحضور الباجي قائد السبسي و منصور السخيري
وتابع المزالي: طلب بورقيبة المجيء بإدريس قيقة، فجاء ودخل فرحا دخول الأبطال لمكتب الرئيس بورقيبة ووراءه وسيلة على أساس أنه سيعين وقتها مكاني و أنه تمت إقالتي من بورقيبة لكن ما إن خطى ثلاث خطوات في المكتب حتى أوقفه بورقيبة وأخذ يسبه ويشتمه شتائم لاذعة لا يمكن أن نكررها و نعيدها ووسيلة وراء الباب تنظر وأخذ وجهها يصفر كالليمون”
وعن مصير إدريس قيقة بعد مؤامرة الخبز قال المزالي”عزل ادريس قيقة يوم السبت أظن 5 أو 6 جانفي 1984 ومن الغد يوم الأحد سارع بالهروب إلى باريس ولكن بورقيبة أصر على البحث في هذه المؤامرة وكلف بها وكيل الجمهورية العام حينذاك الذي أصبح وزير عدل وهو رضا بن علي وحكم غيابيا من طرف المحكمة العليا ولم يرجع قيقه إلى تونس إلا بعد 7 نوفمبر 1987 حيث ألقي عليه القبض وزج به في السجن المدني أياما بحدود نصف شهر ثم حكم عليه بخمس سنوات مع تأجيل التنفيذ.
شهادات في جلسات استماع لهيئة الحقيقة و الكرامة
هذا و بعد الثورة التونسية عقدت هيئة الحقيقة والكرامة جلسات إستماع لأحداث الخبز كما تلقت 1230 ملفا يتعلق بانتهكات في هذه الأحداث وتتوزع هذه الملفات حسب الانتهاكات إلى 85 ملفا حول انتهاك القتل العمد، و213 ملفا حول انتهاك الإصابة اثناء الاحتجاجات او بمناسبتها، و932 ملقا حول انتهاك الإيقاف التعسفي والتعذيب والسجن.
وطالب المتضررون من أحداث الخبز في جلسات هيئة الحقيقة والكرامة بكشف الحقيقة وإعلامهم بمكان دفن ذويهم.
و من بين الشهادات المؤثرة شهادة عبد الستار المعروفي من جندوبة ومنصف العجيمي ومحمد بوزيان من منطقة الكرم ، الذين كانوا من بين المشاركين في الاحتجاجات السلمية الرافضة للزيادة في سعر الخبز، و رغم صغر سنهم آنذاك، (بين 15 و20 سنة)، مورست عليهم من النظام البورقيبي الإجرامي عمليات تعذيب أثناء التحقيق باللجوء إلى اقتلاع الأظافر والحرق واستعمال القوارير في الإعتداءات الجنسية ثم تركهم مع اخطر العصابات في السجن.
ختاما…
رحلت أسماء إلى الدار الآخرة ساهم أصحابها في أحداث الخبز في 1983/ 1984 و في رقابهم دماء قرابة 100 شهيد سقطوا في هذه الاحداث علاوة على 900 جريح بسبب الطمع في المناصب والصراعات السياسية التي تحرك الشارع و مازالت تتواصل إلى اليوم بعد الثورة ليبقى الشعب التونسي يعاني من خبث السياسيين ومؤامراتهم الدنيئة التي فرضت حياة الذل والفقر والجهل والتهميش في البلاد.
ليلى العود