إذا صحّت مزاعم المستشار السابق لرئيس الحكومة الفخفاخ.. والتي توافق شكوكا سابقة قويّة.. حول تلاعب الرئيس سعيّد بالدستور.. وخداعه للشعب التونسي بزعمه زورا سبق استقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ليلة تقديم لائحة لوم ضدّه رسميّا بمكتب ضبط البرلمان.. دون أن يحدث ذلك حقيقة.. فإنّ قيس سعيّد يكون قد ارتكب طبق القانون الجنائي “جريمة” التزوير المعنوي.. وارتكب أيضا خرقا جسيما للدستور موجبا لعزله من طرف مجلس نواب الشعب طبق أحكام الفصل 88 من الدستور.. لو وجدت المحكمة الدستوريّة..!!
– – – –
– –
في شهادة مدويّة نشر جوهر بن مبارك صباح اليوم الجمعة 19 مارس 2021.. مقالا أكّد فيه أنّه خلافا لما أعلنه رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد عند اجتماعه برئيس مجلس نواب الشعب ورئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي وأمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبّوبي بحضور رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.. وذلك بعد أن تمّ تقديم لائحة لوم رسميّا بمجلس نواب الشعب ضدّ حكومة إلياس الفخفاخ.. من أنّ هذا الأخير قدّم له استقالته في وقت سابق ليلة البارحة بما يجعل الحكومة مستقيلة قبل تقديم لائحة اللوم.. فإنّ تلك الواقعة كانت “كذبة” كبرى.. وأنّ الفخفاخ لم يسبق له تقديم إستقالته إطلاقا.. وأنّ الرئيس فاجأه بزعم ذلك وإعلانه زورا أمام الغنّوشي والطبّوبي..!!
يكمن الهدف السياسي والدستوري للرئيس سعيّد في تغيير الوقائع وتقديم مزاعم مزوّرة في أنّ تقديم لائحة اللوم ضدّ الحكومة قبل تقديم رئيسها الفخفاخ لاستقالته كان سيعطي لأحزاب الأغلبيّة البرلمانيّة التي قدّمت اللائحة الحقّ الدستوري في تكليف رئيس حكومة جديد من اختيارهم وبالتالي تكوين الحكومة بمعرفتهم..
في حين أنّ سبق استقالة حكومة الفخفاخ كان سيعطي الحقّ الدستوري في تكليف رئيس الحكومة الجديد إلى رئيس الجمهوريّة مرّة أخرى..
وبالتالي فإنّ قيس سعيّد تعمّد المغالطة والخداع وتزوير الحقائق أمام راشد الغنّوشي ونور الدين الطبّوبي.. وأمام الشعب التونسي.. لتحقيق مآرب سياسويّة ولو بالتحيّل على الدستور.. وبقلب الحقائق.. رغم كلّ مزاعمه عن الصدق والأمانة والحلف على احترام الدستور وعن طهوريّته وتشبّهه بالفاروق عمر والكذا والشيء..!!!
–
علما وأنّه سبق لنا في مقالات سابقة التشكيك في صحّة توقيت تقديم الإستقالة المزعومة التي أعلنها الرئيس سعيّد لحكومة الفخفاخ دون سابق خبر أو إعلام للعموم.. وأوردنا أنّ مزاعم الرئيس تشوبها نقاط استفهام وشبهات مناورة ومراوغة للدستور..
وقد شكّكت عديد الأطراف والأحزاب والشخصيّات السياسيّة بدورها في تلك الواقعة..
بل رغب البعض في تصعيد الموقف والمضيّ قدما في إجراءات لائحة اللوم ضدّ الحكومة بمجلس نواب الشعب باعتبارها سابقة رسميّا.. لكن بعض الأطراف آثرت على مضض عدم تصعيد الموقف وتجنّب أزمة سياسيّة خانقة مع رئيس الجمهوريّة المتصلّب.. ومن بينها أساسا حركة النهضة..
–
وقد أورد جوهر بن مبارك روايته للأحداث يومها عن اجتماع بقصر الحكومة بالقصبة.. وذلك بعد عودة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ من قصر الرئاسة بقرطاج إثر اجتماعه الشهير مع رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس النواب وأمين عام الاتحاد.. الذي انتظم بعيد إعلان عدد من النواب رسميّا تقديمهم وإيداعهم فعليّا لائحة حجب الثقة من حكومة الفخفاخ بمكتب ضبط البرلمان..
وجاء في شهادته حرفيّا ما يلي:
“كنت بمكتبي في رئاسة الحكومة اتحدث مع وفد من شباب قفصة المعتصم حين طلب مني رئيس الحكومة القدوم الى مكتبه. كنت اعرف انه عائد لتوّه من لقاء مع رئيس الدولة ورئيس البرلمان و الأمين العام للاتحاد. دخلت عليه بعد ان اتممت اللقاء مع الشباب و كان الفريق كاملا مجتمعا.
شعرت من وجوههم الواجمة ان الأمر جلل.
قال لي مباشرة وكنت لا أزال واقفا مستغربا هذا الجو المشحون:
– طلب مني رئيس الجمهورية تقديم استقالتي. ثمّ ابتسم.
– ماذا فعلت؟
– الى حدّ الآن لم افعل شيئا و لكن اريد رايك حتى قبل ان تسمع راي البقية.
فهمت بسرعة كلّ ما جرى ودون تفكير طويل قلت:
– لا تستقيل هناك لائحة لوم اودعها نوّاب مقامرون بالمجلس عليهم جمع أغلبية مطلقة و لدينا خمسة عشر يوما. و انا على يقين انها غير جديّة و لن يذهب بها احد الى منتهاها هذه معركتنا و علينا خوضها الى النهاية بكلّ شرف و لدينا فرصة حقيقية لتحرير الحكومة من الابتزاز و تثبيت أرضها نهائيا. دعنا نقودهم الى الجنّة بالسلاسل ان اقتضى الأمر.
– لا لا لقد اعلن رئيس الجمهورية استقالتي و قال انني قدّمتها ليلة البارحة.
– وهل فعلت؟
– لا لم افعل بعد.
– وضعك امام الأمر المقضي اذا! هذا موجب آخر لخوض المعركة وعدم التسليم.
– لا لقد قررت الإستقالة وإعادة الأمر للرئيس.”
–
من المعلوم بأنّ جوهر بن مبارك كان مقربا لفترة طويلة من حزب التيّار الديمقراطي.. وقد شغل خطّة مستشار سياسي لأمينه العام السابق محمّد عبّو في الانتخابات الرئاسيّة.. وخاض معهم الحملة الانتخابيّة بقوّة..
كما لعب جوهر بن مبارك صحبة الكاتب الحبيب بوعجيلة دورا مهمّا وفاعلا في كواليس محاولة تشكيل حكومة الحبيب الجملي ثمّ حكومة إلياس الفخفاخ.. وكانا مقرّبين من الأحزاب المكوّنة لها وهي أساسا التيّار الديمقراطي وحركة النهضة وحركة الشعب وتحيا تونس.. وكانت علاقتهما جيّدة برئيس الجمهوريّة وفي تواصل دائم مع ديوان الرئيس في فترة تكوين الحكومتين..
ولاحقا..عيّن إلياس الفخفاخ جوهر بن مبارك مستشارا برئاسة الحكومة..
وهو ما يجعل شهادة جوهر بن مبارك برغم كلّ ما يعتري عموما مواقفه السياسيّة والإعلاميّة وأحيانا تأويلاته الدستوريّة من تذبذب وتلاعب.. يجعلها شهادة المطلّع على الأمور “من داخل المطبخ” الذي سويّت فيه الطبخات السياسيّة للحكومة لفترة..
–
هذه الشهادة من جوهر بن مبارك المستشار السابق لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.. تثبت بطريقة قاطعة بأنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد ليس بالرجل الصادق الأمين كما يصرّ على تقديم نفسه.. وتدلّ على أنّه تعمّد الكذب والمغالطة والتحيّل على الدستور.. بزعم سبق استقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ليلة البارحة.. أي قبل تقديم لائحة حجب للثقة ضدّة بمجلس نواب الشعب صباح اليوم الذي التقى فيه رئيس الجمهوريّة برئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وأمين عام اتحاد الشغل..
يعني ذلك بوضوح.. بأنّ الرئيس قيس سعيّد تحيّل على الدستور بقطع الطريق على لائحة حجب الثقة التي تمكّن الأغلبيّة البرلمانيّة من حقّ تعيين رئيس الحكومة الجديد واستعادة المبادرة في تشكيل الحكومة طبق الدستور.. ليسترجع بذلك هو دون غيره حقّ تكليف رئيس الحكومة الجديد.. ولو باستعمال الخزعبلات وتزوير الحقائق..
بما يعني.. أنّ الرئيس قيس سعيّد الذي يتّهم خصومه بالكذب والنفاق واعتماد المناورات السياسيّة والتآمر في الغرف المظلمة.. هو نفسه ينتهج نفس الطريقة.. ويستعمل نفس المناورات والألاعيب..
أي أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد أصبح يتصرّف في الواقع بنفس أسلوب الأحزاب والشخصيّات السياسيّة التي ينتقدها.. ونزل بدوره إلى وحل السياسة الآسن.. بما ينزع عنه صفة القدسيّة والطهوريّة التي يريد غصبا أن يغلّف بها نفسه دونا عن بقيّة الشخصيّات السياسيّة بالبلاد..!!
–
على فكرة.. وبعيدا عن السياسة..
وفي خضّم الدستور والقانون العام..
فإنّ شهادة جوهر بن مبارك بمفردها.. كافية لإثارة تتبّعات جزائيّة ضدّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بتهمة التزوير المعنوي..
وإن كان يتمتّع بالحصانة الرئاسيّة اليوم.. فإنّه ذلك ممكن قانونا بعد انتهاء مهامه الرئاسيّة..
لكنّ الأهمّ أنّه لو كانت هناك محكمة دستوريّة.. وثبت ما يزعمه جوهر بن مبارك.. والأغلب أنّ إثبات ذلك قد لا يكون مستحيلا في ظلّ تحقيق معمّق.. لكان من الممكن المضيّ قدما في إجراءات عزل رئيس الجمهوريّة “من أجل الخرق الجسيم للدستور” طبق أحكام الفصل 88 من الدستور..
–
بقطع النظر عن كلّ ذلك.. فقد أصبح لدينا اليوم رئيس جمهوريّة غارق بدوره في وحل الوضع السياسي المتردّي.. ولا يختلف في شيء عن كلّ الشخصيّات السياسيّة والأحزاب التي يزعم أنّه لا يشبهها.. ولا ينتمي إليها.. فهو ليس من كوكب آخر كما قال زورا.. ولكنّه من نفس كوكب السياسة المتعفّنة في تونس..!!!
الكاتب: الأستاذ عبد اللّطيف درباله ـ ـمحامي ورئيس تحرير مجلة “عين”