بعد حادثة أكذوبة الظرف المسموم، اتضح للعموم مدى استعداد محيط رئيس الجمهورية قيس سعيّد على حبك سيناريوهات فاشلة وايهامه بتآمر الجميع ضدّه، لدفعه إلى مواجهة سيخرج منها حتما بثوب الخاسر الأكبر. واتضح أيضا، مدى سيطرة هذا المحيط على شخصيّة وميزاجية ساكن قصر قرطاج، الذي كان من المفروض أن يعمل منذ البداية على التجميع وتقريب وجهات النظر بدلا من الإنعزال والتفكير في مخططات إستهدافه، والتي لن تخدم أي طرف من المكونات السياسية والوطنية خاصة الداعمة لإستمرارية الدولة.
منذ اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية 2019 وفوز قيس سعيد بمنصب رئيس الجمهورية، الأمر الذي لم يكن متوقعا رغم إشارة نتائج سبر الآراء لحدوثه، انطلق الجميع في البحث عن خصال رجل لم يمارس السياسة يوما ولم تدعمه الماكينة الحزبية، نجح في الوصول إلى أعلى مراكز السلطة.
وكانت الأسئلة المطروحة حول قيس سعيد، الذي سمي بالرجل الغامض، كثيرة. من هو قيس سعيّد؟ كيف يفكّر؟ من أي عائلة سياسيّة؟ هل هو حاسم أم متردّد؟ إلى أي مدى يمكن أن ينجح في مهمته؟ كيف سيتعامل مع الطيف السياسي وهو لم يمارس السياسة قطّ؟
استثمار المحيط في متلازمة خوف الرّئيس
قيس سعيد الذي لم يحدثنا عن مشروعه يوما واكتفى بتكرير عبارة “الشعب يريد” على مسامعنا كلما استفسرناه عن ملامح برنامجه الانتخابي واستراتيجيته للحكم، عُرف في الأوساط الضيقة التي تعرفه جيدا وتحسن توصيفه، بخوفه الشديد ومدى حذره، حتى أنه يخشى توسيع علاقاته ويسعى دائما إلى الحفاظ على محيط معارفه القدامى الذين يثق بهم.
في ذات الوقت، تأكد لدى جميع أن هذا الرجل مغامر ولا يستسلم مهما كانت النتيجة، بعد خوضه تجربة الانتخابات الرئاسية دون دعم سياسي خاصة في الدور الأول، حيث نجح في التأهل للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في مواجهة رئيس حزب قلب تونس ومدير قناة نسمة نبيل القروي الذي كان يملك قوة المال والإعلام للتأثير في الناخبين وتوفير حظوظ أكبر للفوز بكرسي قرطاج. هاتان الخصلتان، متلازمة الخوف والقدرة على المغامرة، جعلا من قيس سعيّد اليوم شخصا متعنتا ورافضا لكلّ المبادرات والحوارات.
فقد نجح محيط قيس سعيد في الاستثمار في خوفه عبر ايهامه بسيناريوهات لتصفيته ومخططات للتخلص منه ومؤامرات تحاك ضده في جنح الليل. وهذا ما يفسر تهديدات قيس سعيد المتكررة في خطاباته، على قلتها، والتي كانت تستهدف في كل مرة جزءا من الطبقة السياسية بعينه.
الخوف ولا شيء غير الخوف كان يحقن لسكان قرطاج صباحا مساء حتى تحول إلى رجل أكثر غرابة مما كان عليه، حتى أن أحد مستشاريه الأوائل تحدث في دوائر مقربة منه عن عدم ثقة سعيّد في العاملين في القصر وشكه المتواصل بهم، مما دفعه إلى جلب قهوته وأكله جاهزا من منزله بالمنيهلة، رجل لا يثق في كوب ماء يقدّم إليه فكيف يثق في رجال السياسة؟
وان كان سيحسب لقيس سعيد انجازا منذ صعوده إلى سدّة الحكم، فإنه سيحسب له نجاحه الباهر في الإنعزال والإنكماش ومعادات الجميع. وسيحسب له فعلا أنه نجح في البقاء وحيدا بدلا من العمل على إيجاد حلول ديبلوماسية اقتصادية وتجسيد شعار “الشعب يريد” لأن الشعب يريد حلولا لا خطابات تصنع الأزمات.
وقد يحسب لسعيّد أيضا نجاحه في تفريق الجهود بعد استماتته في عدم السماح لوزراء حكومة المشيشي الجدد بأداء اليمين الدستورية للإنطلاق في مباشرة أعمالهم في ظرف صحيّ خطير جدّا، وفي وضع أمني صعب دون وزير داخليّة، بالرغم من أن الدستور يجبره على القبول، ولا يسمح له بالرفض.
خبراء القانون الدستوري أكدوا على ضرورة انطلاق الوزراء الجدد في مباشرة مهاهم دون أداء اليمين يوم الإربعاء القادم في حال لم يلتزم سعيّد بواجبه الدستوري، لكنّ هذا الحلّ سيدفع إلى تعميق الأزمة وسيفتح مجالا لمحيط سعيّد للمواصلة في جرّه وجرّنا إلى مواجهة نخسر فيها جميعا فرصة نجاح.