مع تجاوز عدد الإصابات بفيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” في أربعة وتسعين بلدا حاجز المليون شخص، والوفيات 46 ألفا، تعمد الحكومات إلى تطبيق الحجر الصحي للسيطرة على المرض، وهو إجراء دعا إليه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قبل أكثر من 14 قرنا، بل يرى البعض أن الإسلام هو أول من أسس لمفهوم الحجر الصحي.
ويعرف الحجر الصحي (quarantine) بأنه إجراء يخضع له الأشخاص الذين تعرضوا لمرض معد، سواء أصيبوا بالمرض أو لم يصابوا به. وفيه يُطلب من الأشخاص المعنيين البقاء في المنزل أو أي مكان آخر لمنع مزيد من انتشار المرض للآخرين، ولرصد آثار المرض عليهم وعلى صحتهم بعناية
الطاعون والهدي النبوي
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث، مبادئ الحجر الصحي بأوضح بيان، فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، بل جعل الخروج منها كالفرار من الزحف الذي هو من كبائر الذنوب، وجعل للصابر في الطاعون أجر الشهيد.
إذ روى البخاري في صحيحه قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين خرج إلى الشام، فلما وصل إلى منطقة قريبة منها يقال لها: “سرغ”، بالقرب من اليرموك، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعاهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء.
فنادى عمر في الناس إني مُصَبِّح على ظَهْرٍ فأَصْبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) قال: فحمد اللهَ عمرُ ثم انصرف.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفارّ من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف) رواه أحمد.
ووفقا للتقرير فإن منع الناس من الدخول إلى أرض الوباء قد يكون أمرا واضحا ومفهوما، ولكن منع من كان في البلدة المصابة بالوباء من الخروج منها إن كان صحيحا معافى، كان أمرا غير واضح التبرير في ذلك الوقت، حيث كان يفترض بالشخص السليم الذي يعيش في بلدة الوباء أن يفر منها إلى بلدة أخرى سليمة، حتى لا يصاب بالعدوى، ولم تعرف العلة في ذلك إلا في العصور المتأخرة التي تقدم فيها العلم والطب.
الطواعين والأوبئة في التاريخ الإسلامي
لعل أول طاعون أو وباء عام ذكرته مصادرنا الإسلامية هو طاعون وقع في بني إسرائيل، بعد أن امتنعوا عن امتثال أوامر الله وبدّلوا كلماته. قال تعالى: {فبدّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون}؛ (سورة البقرة/ الآية: 59). قال الطبري (ت 310هـ) في تفسيره: “أهلكهم الطاعون”. ويدل على هذا أيضًا ما رواه البخاري (ت 256هـ) -في صحيحه- من أن أسامة بن زيد (ت 54هـ) سأل النبي (ص) عن الطاعون، فقال: “الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ علَى طَائِفَةٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ -أوْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ- فَإِذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ -وأَنْتُمْ بهَا- فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه”. ويمكن أن يُفهم من هذا الحديث أن بكتيريا الطاعون ظلت بين حالتيْ كمون وظهور عبر الأعصر.
لم يسجل لنا أصحاب السيرة النبوية من الطواعين التي وقعت في حياة النبي (ص) إلا طاعونا وقع في فارس سنة 6هـ، وسُمّي باسم ملكها شيرويه (ت 628م).
ثم وقع “طاعون عمواس” (= قرية فلسطينية كانت تقع على نحو 28 كم جنوب شرق يافا وهدمها المحتلون اليهود 1967م) سنة 18هـ “فتفانى الناس”؛ حسب تعبير الطبري في تاريخه.
وكان طاعونًا فتاكًا هلك فيه 25 ألفًا؛ وقد مات فيه من كبار قادة الصحابة: أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل.
وفي عام 24هـ؛ وقع طاعون في مصر لا نعرف عنه سوى أنه أخذ خمسة أبناء للشاعر أبي ذؤيب الهذلي
تعريفات الأوبئة قديما وحديثا
يفسر الأطباء المعاصرون الطاعون بأنه بكتيريا تسمى “يرسينيا بيستيس” (Yersinia pestis) وتتكاثر في جوف البراغيث والحشرات الصغيرة كالقمل والبقّ، وتنتقل إلى الحيوانات المستأنسة كالقطط والفئران والكلاب والمواشي، ثم تنتقل منها إلى الإنسان. وطريقة حدوث مرض الطاعون هي أن البكتيريا الطاعونية تتكاثر في جوف البراغيث مثلا، ثم تتسرب إلى مريئها فتسدّه فيورث ذلك لديها نهمة للدماء، فتطلبها من الحيوانات أو الناس فعندما تمتص منها تقيء فيها الدم الملوّث، فينتشر في الجسم ويحصل الطاعون الذي يتفشى بين الناس بالعدوى.
ومن حيث الفرق في الاستخدام الدلالي بين الطاعون والوباء؛ فقد ذهب القدماء من العلماء إلى أن الوباء هو كل مرض منتشر بما في ذلك الطاعون، لكن الأخير يتميّز بأعراضه الخاصّة.
قال أبو الوليد الباجي (ت 474هـ) فيما نقله عنه ابن حجر (ت 852هـ) في كتابه ‘بذل الماعون في فضل الطاعون‘: “الطاعون مرض يعم الكثير من الناس -في جهة من الجهات- بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة”.
أما القاضي عياض (ت 544هـ) -في شرحه لـ‘صحيح مسلم‘- فقد قال مبينا الفرق بينهما عند الأقدمين: “أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض؛ فسُمّيت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا”، بينما يرجح محب الدين الطبري (ت 694هـ) -في ‘الرياض النضرة‘- أن “كل مرض عام -من خُرّاج أو غيره- يسمى طاعونا”.
ونحن نجد في كلامهم وصفا لثلاثة أنواع من الطاعون، مع عدم تحديدهم لطبيعتها: 1- الطاعون اللمفاوي (الدمّلي): وهو تورم العُقد اللمفاوية التي تمنح الجسم القدرة على مقاومة العدوى والتعافي منها إن حصلت.
وهو المراد بقول ابن سينا (ت 428هـ) -في ‘القانون في الطب‘- عند وصفه الطاعون: “مادة سُمِّية تُحدث ورمًا قتّالًا، يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط”.
2- الطاعون الرئوي: يبدأ بالتهاب شُعَبي يتبعه فورًا استسقاء الرئتين (امتلاؤهما بالسائل)، ثم تحدث الوفاة خلال ثلاثة أيام أو أربعة. 3- طاعون تعفن الدم: وتغزو فيه البكتيريا تيار الدم فتحدث الوفاة قبل أن تبدو مظاهر الطاعون اللمفاوي أو الرئوي. ويشير إليه ابن سينا بقوله: “وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّي يُفسد العضو ويغيّر ما يليه، ويؤدي إلى القلب بكيفيّة رديئة، فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان”.
وفي التعريفات الطبية المعاصرة؛ جاء في ‘الموسوعة البريطانية‘ أن “الطاعون مصطلح كان يطلق قديما على أي مرض واسع الانتشار مسبب للموت الجماعي، لكنه الآن محصور في حُمّى معدية من نوع خاص تسببه البكتيريا العصوية التي ينقلها برغوث الفئران”.
وأما الوباء فتعرّفه منظمة الصحة العالمية بأنه: “الجائحة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، أو على مساحة واسعة للغاية عابرةً للحدود الدولية، وعادة ما يؤثر على عدد كبير من الناس”.
أطباء وفقهاء
مع تتابع موجات الطاعون والأوبئة عبر العصور؛ حاول الأطباء أن يجدوا تشخيصًا دقيقًا له والوقوف على أسبابه، فوجدنا ابن سينا وابن النفيس (ت 687هـ) يرجعانه إلى “فساد في الهواء”.
يقول ابن النفيس فيما يعزوه إليه ابن حجر في ‘بذل الماعون‘: “الوباء ينشأ عن فساد في جوهر الهواء بأسباب خبيثة سماوية أو أرضية، كالشهب والرجوم في آخر الصيف، والماء الآسن والجيف الكثيرة، ولذلك بادروا إلى استصلاح الهواء” أي تطهيره وتنظيفه.
وبهذا يستهلّ الطبيب الأندلسي محمد الشقوري (ت 776هـ) كتابه عن الوباء بفصل يتناول “إصلاح الهواء”؛ فيقول فيه: “يكون استصلاحه بتبخيره لقطع تلك الأبخرة الفاسدة -بالمرّ والمُصْطكَى والسندروس والكندر والميعة- في الأجواء الباردة والضباب. أما في الحر والصفاء والأماكن الجافة؛ فالورد والصندل والكافور والعود الهندي” هي التي يبخّر بها الهواء لاستصلاحه. ولعل فكرة استصلاح الهواء بالبخور قريبة الشبه بما نراه اليوم من تعقيم الدول لشوارع مدنها وساحاتها العامة برش المبيدات والمعقمات، بقصد مكافحة فيروس كورونا ونحوه.
كما اعتمدوا على وصف بعض المطعومات كنوع من التداوي فوصفوا للمرضى “اللحوم البيضاء من الطيور، وخَلّ التفاح والسُّماق وخل الليمون، وأما الحِصرم فغاية في هذا الباب…، ومن صنع من التفاح الحامض والحِصرم مُربى ولعق منه في الغدوات فنعم الدواء”؛ كما يقول الشقوري.
وكان ابن سينا يقول بوجوب فصد المطعون، وقد لاحظ زكريا الأنصاري (ت 926هـ) -في ‘تحفة الراغبين في بيان أمر الطواعين‘ (مخطوط)- هجر الأطباء لهذه المنهجية؛ فقال: “قد أغفل الأطباء -في عصرنا وما قبله- هذا التدبير، فوقع التفريط الشديد من تواطئهم على عدم التعرض لصاحب الطاعون بإخراج الدم، حتى شاع ذلك فيهم وذاع؛ حيث صارت عامتهم تعتقد بتحريم ذلك، وهذا النقل عن رئيسهم”!
لم تعرف الأوبئة والطواعين حدودا جغرافية فكانت تنتقل بسرعة وتتوسع بين مختلف الحضارات في وقت واحد.
المصدر: مقتبس عن مجموعة مقالات