تمسك الرئيس سعيد في مطاعنه القانونية بفوات أجل إرساء المحكمة الدستورية المحدد بسنة واحدة من الانتخابات التشريعية لسنة 2014.. معناه بمنطقه حالة جمود أبدية وشاملة.. ببقاء البلاد بلا محكمة دستوريا مطلقا.. واستحالة تنقيح الدستور للأبد..!!
– – – –
تطبيقا لأحكام الفصل 81 من الدستور قام رئيس الجمهورية قيس سعيد برد القانون الأساسي المصادق عليه من طرف مجلس نواب الشعب بتاريخ يوم 24 مارس 2021 والمنقح للقانون الأساسي عدد 50 المؤرخ في 03 ديسمبر 2015 المتعلق بإجراءات إحداث المحكمة الدستورية.. قام برده مرة ثانية إلى مجلس نواب الشعب..
وكان حريا بالرئيس سعيد أن يعلن بصراحة ووضوح بأنه لن يسمح بتأسيس المحكمة الدستورية.. عوض رد القانون إلى المجلس لقراءة ثانية..
لأنّ رد القوانين إلى المجلس لقراءة ثانية طبق الفصل 81 من الدستور.. والتي تشترط أن تكون معللة من الرئيس.. تفترض إما إعادة تعديل مجلس النواب للقانون طبقا لملاحظات رئيس الجمهورية في تعليله.. والمصادقة عليه تبعا لذلك بالأغلبية المطلقة أي 109 أصوات.. أو إعادة التصويت عليه بنفس نصه الأول على أن يكون ذلك هذه المرة بأغلبية معززة تبلغ ثلاثة أخماس الأصوات أي 131 نائبا..
لكن الأسباب القانونية التي قدمها الرئيس سعيد في تعليل رده للقانون المتعلق بالمحكمة الدستورية لا يمكن تجاوزها ولا إصلاحها.. وبالتالي فإن تداركها مستحيل.. لكونه اعتمد على الدفع بأن الأجل القانوني لتكوين المحكمة الدستورية طبق الفقرة (5) من الفصل 148 من الدستور هو سنة واحدة من تاريخ الانتخابات التشريعيّة لسنة 2014.. والتي جرى الإعلان عن نتائجها طبق ما ورد برسالته يوم 21 نوفمبر 2014.. بما يجعل تكوين المحكمة حسب رأيه بعد ست سنوات هو خارج الأجل..
والأجل كما هو معلوم هو أمر فات ولا يمكن استرجاعه.. وبالتالي فإن رد القانون للمجلس لمراجعته لن يصلح الحال بحسب قيس سعيد..!!
وحتى اعتماد أغلبية أكبر للتصويت عليه.. استبقه سعيد بالتذكير بتأويله الخاص بكون ختم القوانين ليس مجرد إجراء بروتوكولي.. وإنما هو يعطيه الحق حسب رأيه في المصادقة على القوانين أو رفضها.. متجاوزا بذلك تصويت البرلمان عليها..
وهو ما يجعل رئيس الجمهورية قيس سعيد ينصب نفسه رقيبا جديدا على مجلس نواب الشعب.. ويفرغ والحالة تلك السلطة التشريعية من سلطتها في سن القوانين.. ويضرب استقلاليتها.. ويجعلها سلطة تحت سلطة رئيس الجمهورية حسب منطقه..
بما يناقض كليا نظرية وقواعد الفصل بين السلط التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية.. وتذكرنا بسلطة الرئيس الأوحد في الديكتاتوريات..
وتذكرنا بسلطة بن علي المطلقة التي تعلو على الدستور وعلى البرلمان..!!
–
وهكذا فأخيرا.. أكد رئيس الجمهورية قيس سعيد بصراحة وبوضوح وبخط يده في رسالته.. ما سبق لنا تأكيده ونشره في تحليلاتنا ومقالاتنا السابقة عن عدم رغبته في تأسيس المحكمة الدستورية.. وعن توجهه لتعطيلها.. وذلك لثلاثة أسباب سياسية رئيسيّة:
1 ـ لضمان استمرار إنفراد الرئيس سعيد بتأويل الدستور.. بما يعطيه ثقلا سياسيا طبق سياسة الأمر الواقع.
2 ـ لعدم إتاحة الرئيس سعيد الفرصة للمحكمة الدستورية للحكم في الخلافات بينه وبينه رئيس الحكومة طبق الفصل 101 من الدستور.
3 ـ لخوف الرئيس سعيد من إمكانية عزله من طرف أغلبية الثلثين بمجلس نواب الشعب بسبب خرقه الجسيم للدستور طبق الفصل 88 من الدستور.. ولكون المحكمة الدستورية وحدها هي التي يمكنها إقرار إدانته وإعطاء قرار البرلمان النفاذ القانوني.
–
كان يمكن القول بأن الرئيس سعيد يمارس حقه في رد القانون إما لفرض قراءة ثانية تأخذ بعين الاعتبار بعض النقاط القانونية.. أو لفرض إعادة المصادقة عليه بنفس النص لكن بأغلبية أكبر تبلغ ثلاثة أخماس الأصوات (131 نائبا).. في حين وقعت المصادقة عليه في الجلسة الأولى بعدد 111 صوت فقط..
لكنّ الحقيقة أن نية الرئيس سعيد تتجه بوضوح إلى قرار نهائي بعدم تأسيس المحكمة الدستورية مطلقا.. ذلك أن النقطة القانونية الأساسية التي اعتمدها.. هي “النقطة الخامسة من الفصل 148 من الدستور”.. وهي نقطة وردت ضمن الأحكام الانتقالية في الدستور.. أي عن الإجراءات التي سيبدأ تنفيذها في المرحلة اللاحقة للمصادقة عليه (25 جانفي 2014) تمهيدا لدخول كل أحكام الدستور حيز التنفيذ.. وإتمام تأسيس كل الهياكل الدستورية التي أقرها الدستور الجديد بعد الثورة..
–
الملاحظ أنّ النقطة (5) من الفصل 148 من الدستور تنص على ما يلي:
“يتم في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ الانتخابات التشريعية إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وفي أجل أقصاه سنة من هذه الانتخابات إرساء المحكمة الدستورية”.
يعني ذلك أن رئيس الجمهورية قيس سعيد يعتبر أن الأجل القانوني لتأسيس المحكمة الدستورية والمحدد بالسنة من تاريخ الانتخابات التشريعية.. والمقصود بها انتخابات سنة 2014 قد فات.. وأنّ إتمام إجراءات تأسيسها سنة 2021 أصبح خارج الأجل القانوني.. وبالتالي فلا مجال إليه اليوم..
وهو تأويل لا يستقيم لا عقلا ولا منطقا ولا منهجا قانونيا ولا دستوريا ولا فقه قضاء ولا من حيث الأعراف القانونية والدستورية الجارية..
ومن المعروف في المفهوم القانوني أن الآجال تقوم على صنفين أساسيين:
ـ هناك آجال إجرائية بحتة.. وهي آجال مسقطة.. بمعنى أنه يقع تحديد أجل قانوني للقيام بإجراء معين.. فإن لم يتم خلال ذلك الأجل سقط وانتهى حق القيام به.. من ذلك مثلا آجال استئناف أو تعقيب الأحكام أو الاعتراض عليها.. التي يسقط حق القيام بها بعد مضي الأجل القانوني..
ـ هناك آجال غير مسقطة.. أي أنه يقع تحديد أجل قانوني للقيام بإجراء معين وذلك بهدف حصر المطالب به لدفعه لتنفيذه خلال وقت محدد.. فإن لم يقم به خلال الأجل القانوني.. لا يعني أنه أصبح غير مطالب للقيام به لفوات الأجل.. من ذلك مثلا آجال دفع الضرائب أو آجال دفع معاليم الجولان أو آجال التصريح بما يوجبه القانون.. فإن فوات تلك الآجال لا يعفي المطالب بها من ضرورة تنفيذها.. ولا يمكنه التمسك بفوات ونهاية الأجل القانوني لإعفائه منها..
من الغني عنه القول بأن الأجل المنصوص عليه لإرساء المحكمة الدستورية هو من الآجال التي تهدف إلى حصر المطالبين بها بمدة زمنية معينة لحثّهم على الإسراع بتأسيسها.. وإن فوات ذلك الأجل لا يسقط حق ولا واجب تأسيسها..
من الغريب أن قيس سعيد يفتي بأن ذلك الأجل يتعلق بأمر دستوري وبالتالي يتعلق بالنظام العام ليبرر بأنه بفواته يسقط ويصبح خارج الأجل.. في حين أن ذلك التبرير على العكس هو نفسه الذي يدفع لاعتبار الأجل غير مقيد وغير قابل للسقوط باعتبار أن واجب تأسيس المحكمة يبقى قائما حتى بفوات الأجل لأنه يتعلق بالنظام العام وبالمصلحة العليا للبلاد..
–
من آليات القانون المعتمدة في التأويل هو الاستباط العكسي..
وقياسا على ذلك.. فهل إذا ما افترضنا بأن القوى السياسية المكونة لمجلس نواب الشعب تآمرت سنة 2014 لمنع تكوين المحكمة الدستورية وتفويت أجلها.. فإن معنى ذلك أنهم نجحوا في حرمان الشعب التونسي برمته من حقه في تكوين محكمة دستورية إلى الأبد.. وذلك حتى بعد نهاية مجلسهم وفقدانهم هم صفة النواب..؟؟؟!!!
كما أن قيس سعيد اعتمد كعادته على الوقوف عند ويل للمصلين.. فقد استند إلى حيثيات قرار استشاري صادر عن المحكمة الإدارية بتاريخ 20 نوفمبر 2015 في ما يخص تأسيس المجلس الأعلى للقضاء..
واعتبر القرار أنّ تاريخ نشر نتيجة الانتخابات التشريعيّة بالرائد الرسمي للجمهوريّة التونسيّة يوم 21 نوفمبر 2014 هو تاريخ بداية احتساب أجل إرساء المحكمة الدستوريّة البالغ ستّة (6) أشهر.. أي أنّه ينتهي يوم 21 ماي 2015.. وذلك بغرض الدلالة على أنّ أجل إرساء المحكمة الدستورية انتهى بعد مضي أجل سنة من تاريخ 21 نوفمبر 2014.. والحال أنّ قيس سعيّد نسي أو بالأحرى تناسى قصدا بأنّ المجلس الأعلى للقضاء وقع إرسائه في النهاية بعد مدّة طويلة من نهاية أجل الستّة أشهر..
وأنّه وبرغم ذلك فإنّ المحكمة الإداريّة نفسها تعترف بقانونيّته وفاعليّته.. وتعدّ إحدى الهيئات المكوّنة لمجلس القضاء.. تماما كما تعترف به سائر الهيئات القضائيّة الأخرى بالبلاد وتنضوي تحته اليوم..
وإنّنا لم نسمع من يقول أو يفتي أو يعطي تحليلا قانونيّا بأنّه بفوات أجل الستّة أشهر طبق الفقرة (5) من الفصل 148 من الدستور.. يسقط حقّ أو إمكانيّة تأسيس المجلس الأعلى للقضاء.. وأنّه يجب والحالة تلك بقاء البلاد بلا مجلس أعلى للقضاء..!!
بل أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد نفسه.. يعترف بالمجلس الأعلى للقضاء.. ويقرّ قراراته.. ويستقبل رئيسه.. ويتعامل معه.. ويعترف بشرعيّته..
وفي ذلك منتهى التناقض.. بما يشي بأنّ تأويل قيس سعيّد هو تأويل انتهازيّ وعلى القياس فقط لتحقيق مصلحته الذاتيّة التي أصبحت تتعارض مع تأسيس المحكمة الدستوريّة بالذات..
وإذا ما اعتمدنا منطق وتأويل ونظريّة قيس سعيّد التي وردت في رسالته.. فإنّ معنى ذلك أنّ تأسيس المجلس الأعلى للقضاء كان باطلا دستورا وقانونا..
وباعتبار أنّ المبدأ القانوني أنّ ما يبنى على باطل يكون باطلا.. فإنّ كلّ إجراءات وأعمال وقرارات المجلس الأعلى للقضاء طيلة السنوات الأخيرة تكون باطلة ولا عمل عليها ولا يعتد بها ويتجه إلغائها واعتبارها غير قانونية..!!!
–
أكثر من ذلك..
إذا ما جارينا قيس سعيّد في تأويله للفصل 148 من الدستور وتحديد الأجل القانوني لإرساء المحكمة الدستوريّة بسنة واحدة من تاريخ الانتخابات التشريعيّة التي جرت في أكتوبر 2014 ولا يمكن التمديد فيه.. فإنّ معنى ذلك أنّه لن يكون ممكنا مستقبلا تأسيس المحكمة الدستوريّة مطلقا لفوات الأجل.. والأجل كما نعلم إن فات لا يعود..
وهو ما يعني منع تأسيس المحكمة مطلقا..
وحتّى لو أقررنا بذلك.. ووقعت محاولة إصلاح الأمر بإعادة تنقيح الفصل الدستوري 148 أو أيّ فصل آخر في الدستور لإعادة التنصيص على أجل جديد أو فتح المجال لتأسيس المحكمة الدستوريّة.. فإنّ ذلك يبدو مستحيلا دستوريّا وقانونيّا وعمليّا.. لكون تنقيح أحكام الدستور يستلزم طبق الفصل 144 من الدستور عرض مشروع التنقيح على المحكمة الدستوريّة نفسها..
أي أنّ الأمر يصبح مثل لعبة “البيضة والدجاجة” ومن جاء أوّلا منهما..!!؟؟
وفي غياب المحكمة الدستوريّة لا يمكن والحالة تلك تنقيح الدستور في ما يخصّ تغيير وتدارك وإصلاح آجال تأسيس المحكمة الدستوريّة.. بما سيجعلنا ندور في حلقة مفرغة وعبثيّة لن تنتهي..
وهو ما يعني تأبيد الوضع.. وإقرار مبدأ عدم تأسيس المحكمة الدستوريّة إلى الأبد..!!
ويعني أيضا مبدأ عدم إمكانيّة تنقيح أو تغيير أحكام الدستور للأبد.. بحسب المنطق المنحرف لرئيس الجمهوريّة والأستاذ المساعد السابق والمتقاعد للقانون الدستوري قيس سعيّد..!!
–
وهو ما يسبّب والحالة تلك وضعيّة جمود أكبر وأعمق وأخطر حتّى من حالة الجمود الناتجة حاليّا عن تعطيل تنفيذ التحوير الوزاري الأخير.. وينذر بكوارث سياسيّة ودستوريّة جديدة إضافيّة قادمة.. طالما لم يقع وضع حدّ لنزعة الرئيس سعيّد للانفراد بكلّ السلط..
–
يعكس هذا الموقف الجديد لقيس سعيّد الرافض لتأسيس المحكمة الدستورية بوضوح رغبته الشديدة في إتمام مدّته الرئاسيّة بدون محكمة دستوريّة.. والتي تفضح بالتأكيد رغبته المرضيّة في الاستفراد بالسلطة.. وحده وبدون أيّ حدّ أو قيد أو رقابة.. ومحاولته منع أيّ هيكل دستوري قضائي من ممارسة صلاحيّات تأويل الدستور وفضّ النزاعات بين رئيسي الجمهوريّة والحكومة.. حتّى لا يقع وضع حدّ لتجاوزاته المستمرّة وخرقه المتكرّر لأحكام الدستور عبر تأويلات غريبة وحلزونيّة وموجّهة..!!
–
بخلاف ذلك فإنّ رسالة قيس سعيّد مليئة بشتّى القفزات البهلوانيّة من التأويلات المطاطيّة للقانون.. إلى المرجعيّات الدينيّة المسقطة إسقاطا دون أيّ تطابق.. من ذلك استعمال الآيات القرآنيّة في غير معناها أو غير محلّها.. دون الحديث عن الشعر والأدب.. والواقع إقحامها بطريقة فجّة كعادة المتحذلقين مدّعي المعرفة والمصابين بميول استعراضيّة للدلالة على ثقافتهم العميقة.. فتراهم يتشدّقون بالثقافة لتبرير ما يخرق أصلا الحسّ الثقافي نفسه.. ويحدّثونك عن الأدب في غير موضع الأدب..!!!
بقلم عبد اللطيف درباله: محامي ومؤسس ورئيس تحرير جريدة “عين”