نسمع دعوات متزايدة من هنا وهناك بضرورة التعجيل بإتمام تكوين المحكمة الدستوريّة.. كحلّ عاجل قد يساهم في إيجاد حلول للمشاكل الدستوريّة وللجمود السياسي اليوم نتيجة الصراع بين أطراف الحكم.. وخاصّة بين رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد وبين رئيس الحكومة هشام المشيشي ومن يقف معه من أحزاب وقوى سياسيّة.. باعتبار أنّ الفصل 101 من الدستور نصّ على أنّ المحكمة الدستوريّة هي التي تفصل وتبتّ في الخلافات ما بين رئيسي الجمهوريّة والحكومة..
غير أنّنا وبالنظر إلى مواقف وتصرّفات رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد.. فإنّنا لا نعتقد أنّه سيمضي حقّا في إتمام تكوين المحكمة الدستوريّة.. ولا في إعطائها فرصة الانطلاق في العمل
..
ذلك أنّ الرئيس سعيّد الذي “صادف” أن كان أستاذ قانون دستوري قبل الرئاسة.. يعتبر أنّه الوحيد الذي يفهم الدستور.. وأنّه لا أستاذ قانون دستوري في تونس يفهم مثله في قواعد وفنون تأويل وتفسير وتطبيق الدساتير.. ولا أدلّ على ذلك أنّه لم يستشر يوما أيّ أستاذ أو خبير آخر في القانون الدستوري.. وكأنّ تونس كاملة ليس فيها أستاذ قانون دستوري غيره
..
رغم أنّ المبدأ الأصوليّ في تأويل وتفسير القوانين أنّ رأيا واحدا ووجهة نظر واحدة قد لا تكفي.. وهو ما يفسّر تكوين هيئات القضاء والمحاكم عادة من عدّة قضاة.. واتّخاذ القرارات والأحكام بأغلبيّة الآراء والأصوات.. وكذلك مبدأالتقاضي على عدّة درجات.. بحيث تراجع هيئة قضائيّة أخرى أعلى أعمال من سبقها من القضاة.. دون التحدّث عن البحوث والدراسات والكتب التي تكوّن فقها قانونيّا متنوّعا حول نقطة قانونيّة واحدة..
لكنّ الرئيس قيس سعيّد لا يسمع إلاّ تأويله وتفسيره..
فالرئيس من أنصار الرأي الواحد.. رأيه فقط..!!
طوال ستّة سنوات ونصف.. منها خمس سنوات لمجلس النواب السابق.. وحوالي سنة ونصف لمجلس النواب الثاني الحالي.. فشلت الأطراف السياسيّة المختلفة في الوصول إلى توافق بأغلبيّة الثلثين (145 صوتا) المطلوبة لاختيار أعضاء المحكمة الدستوريّة.. نتيجة حالة التشتتّ إلى عدّة فرقاء سياسيّين صغار بالمجلس.. وأيضا بفعل حالة الانتهازيّة والريبة المصابين بها.. ذلك أنّ كلّ حزب وكلّ طرف سياسي يرغب في تعيين أعضاء “مضمونين” وتابعين له أو على الأقلّ متعاطفين معه.. ويخشى من تعيين أعضاء معادين له ويقفون ضدّه.. ممّا ضيّع الفرص تباعا لتأسيس المحكمة..
اليوم.. في غياب المحكمة الدستوريّة.. وجد رئيس الجمهوريّة الحالي قيس سعيّد نفسه في مكانة مريحة.. وكانت الفرصة سانحة له ليمسك الدستور “من عنقه”.. وليحتكر بنفسه ولنفسه تأويل الدستور على مزاجه.. ولينتصب في نفس الوقت رئيسا للجمهوريّة ومكان المحكمة الدستوريّة.. حتّى ولو كان هو طرفا في الخلاف والنزاع.. معطيا بذلك لنفسه صفة الخصم والحكم
..
إنّ الرئيس قيس سعيّد الذي دخل في مواجهة مع كلّ الآخرين.. وناصب العداء للحكومة.. ولرئيسها الذي اختاره بنفسه.. ولمجلس نواب الشعب.. ولرئيسه.. وللأغلبيّة البرلمانيّة التي أفرزتها صناديق الاقتراع في انتخابات 2019 من نفس الشعب الذي انتخبه وأوصله هو نفسه للرئاسة.. يصعب تماما تصوّر أن يُفلت من يده هذه الفرصة الثمينة.. وأن يحاصر نفسه بنفسه بأن يوافق على تعيين الأعضاء الأربعة الذين منح الدستور رئيس الجمهوريّة حقّ تعيينهم..
بالإضافة إلى أربعة أعضاء من تعيين مجلس نواب الشعب.. وأربعة أعضاء من تعيين المجلس الأعلى للقضاء.. حتّى ولو عيّن البقيّة فعلا الأعضاء الثمانية أخيرا..
هل سمعتم مرّة قيس سعيّد يغضب أو يلحّ في ضرورة تكوين المحكمة الدستوريّة.. أو يدعو الأطراف السياسيّة إلى عمل ما يلزم لتأسيسها في أقرب وقت ممكن..؟؟!!
إنّ ما يسهل ملاحظته أنّ قيس سعيّد ومنذ أن وصل إلى قصر قرطاج.. لم يحرص في أيّ وقت على إتمام تأسيس المحكمة الدستوريّة.. ولم يهتمّ بالموضوع إطلاقا.. ولم يلحّ في الأمر.. ولا نذكر أنّه تحدّث عن الموضوع طيلة عام ونصف من رئاسته إلاّ مرّتين أو ثلاثة بطريقة عرضيّة عابرة.. دون أيّ تركيز
..!!
وبرغم كلّ الحرص الذي أبداه الرئيس سعيّد في قضايا معيّنة منها حتّى التافهة.. وبرغم كلّ التهم التي كالها للأحزاب.. فإنّه لم يهتمّ أبدا بتقاعسها وعجز البرلمان عن اختيار أعضاء المحكمة الدستوريّة.. ولا اعتبر ذلك من نقاط أو أعراض الفساد السياسي الذي يتحدّث عنه في كلّ مرّة..
غير أنّه على الأطراف السياسيّة في مجلس نواب الشعب أن تسعى مع ذلك إلى وضع رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد أمام مسؤوليّاته.. وأن تحرجه إن لزم الأمر عبر إتمام مهمّتها باختيار أعضاء المحكمة الدستوريّة برغم ذلك في أقرب وقت.. أمّا عبر تفاهمات.. أو عند الضرورة عبر تعديل القانون الذي يحدّد نصاب التصويت على الأعضاء بالنزول به من الثلثين (145 صوتا) إلى النصف زائد واحد (109 أصوات).. ليمكن وضع حدّ لحالة عدم التفاهم التي تخيّم على الموضوع منذ مجلس نواب الشعب السابق من سنة 2014..
نتيجة حالة التشتّت الفائقة في المجلس بفعل القانون الانتخابي بنظام أكبر البقايا.. وبفعل عدم وجود أحزاب سياسيّة كبرى مسيطرة لحداثة الحياة السياسيّة الديمقراطيّة في تونس بعد الثورة..
علما وأنّه في آخر تحوير وزاري والذي هو موضوع أزمة أداء اليمين مع رئيس الجمهوريّة.. فإنّ أغلب الوزراء حصلوا على ما بين 140 و144 صوتا عند نيل الثقة بالبرلمان.. أي بما يقارب الثلثين.. بما يعكس وجود حالة من التفاهم في جبهة واحدة تضمّ عدّة أطراف رغم الخلافات الحزبيّة.. يمكن استغلالها للتوافق أخيرا على أسماء أعضاء المحكمة الدستوريّة دون الحاجة لتعديل القانون..
وهذا الخيار أفضل..
خاصّة وأنّ تعديل القانون قد يستغلّه رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بدوره لتعطيل تأسيس المحكمة الدستوريّة.. وذلك بالطعن فيه وبالامتناع عن ختمه ونشره بالرائد الرسمي واعتماده رسميّا..
اليوم.. أصبحت السيناريوهات معروفة ويمكن توقّعها.. فحتّى إن عيّن مجلس نواب الشعب الأعضاء الأربعة المحمولين عليه.. وعيّن المجلس الأعلى للقضاء الأعضاء الأربعة الآخرين.. فإنّه ليس من الغريب أن يطلع علينا رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بفيتو على بعض الأعضاء المعيّنين ويعتبرهم غير مؤهّلين لعضويّة المحكمة الدستوريّة.. بأيّ تعلّة كانت.. مثل وجود شبهات فساد تخصّهم.. أو عدم الكفاءة.. أو ميولاتهم السياسيّة.. أو غير ذلك الكثير من التعلاّت الواهية التي يمكن له اختلاقها
..
فمن اختلق لنفسه حقّ فيتو على قرارات رئيس الحكومة وعلى تعيين أعضاء الحكومة دون أن يمنحه الدستور التونسي إطلاقا تلك السلطة أو الصفة أو الحقّ.. لن يصعب عليه قياسا على ذلك الاعتراض على تعيين أعضاء المحكمة الدستوريّة..
يجب التفكير في حلول بديلة لمعضلة قيس سعيّد اليوم.. وللردّ على “شطحاته السياسيّة” الجديدة القادمة.. بعيدا عن البحث عن مجرّد التطبيق الحرفي للدستور.. الذي أصبح هو لا يعترف به أصلا.. وإنّما يعتمد دستورا على “مذهبه القيسيّ”..!!
وينصّب نفسه فهّيما ومفسّرا ومؤوّلا منفردا للدستور ووصيّا عليه.. وحده لا شريك له..!!!
بقلم عبد اللطيف درباله: محامي ومؤسس ورئيس تحرير جريدة “عين”